كوميديا

الفيلسوف ميمون

memnon the philosopher
  • الكاتب: فولتير
  • ترجمة: هناء القحطاني
  • تدقيق: أبي أسامة التميمي

 استولت على ميمون ذات يوم فكرة أن يصبح فليسوفًا عظيمًا، فراح يخبر نفسه بأن السعادة تكمن في تجريد النفس من الشهوات، وهذا أمر هين.

” بداية كل ما عليّ فعله هو تجنب الوقوع في الحب؛ فعندما تمر فتاة جميلة أمامي عليّ تذكير نفسي بأن هذه الفاتنة ستصبح عجوزًا تملؤها التجاعيد يومًا من الأيام، وبأن هاتين العينين الجذابتين ستغوران ويختفي بريقهما للأبد، وهذا القوام الممشوق سيترهل وينكمش، وهذا الشعر الآسر سيتساقط ويندثر.  كل ما أحتاجه هو تخيل شكلها المستقبلي، حينها فقط سيتلاشى جمالها من مُخيلتي.

ثانيًا عليّ أن أبقى معتدلا في شُربي وفي حياتي الاجتماعية. سأُذكِرُ نفسي دائمًا بعواقب الإفراط في كل شيء، كتخمة المعدة، وفقدان للمنطق، والصحة، والوقت- عندها فقط سآكل لأسد حاجتي الطبيعية، وستكون صحتي جيدة على الدوام وأفكاري صافية ونقية، وهذا أمر في غاية السهولة ولن يتطلب جهدًا كبيرًا لتحقيقه، ولكن علّي أن أفكر قليلا في كيفية تنظيم ثروتي.

رغباتي معتدلة وثروتي محفوظة بأمان في مصرف نينوى العام، ولديَّ ما يكفيني للعيش مستقلاً، وهذه أفضل النعم. لن أضطر للذهاب للمحاكم كل فترة بسبب نقص المال، ولن أحسد أحدًا، كما أنه لن يحسدني أحد ببساطة!

أما بالنسبة لأصدقائي فسأحافظ على صداقتهم ولن يكون بيننا أي خلاف، فلن أسيء فهم أي أمر يقومون به أو يقولونه، وسيفعلون الأمر ذاته معي، وكل هذا سهل التطبيق”.        

وضع ميمون الورقة التي احتوت خطته الفلسفية في الخزانة، وأطل برأسه من النافذة ورأى امرأتين تسيران تحت شجرة دلبٍ بالقرب من منزله، كانت الأولى كبيرة في السن، وبدت مرتاحة، بينما كانت الأخرى صغيرة، وجميلة وبدا القلق ظاهرًا على مُحياها، لكنها ظلت جميلة رغم البكاء والتناهيد. تأثر فيلسوفنا ولكن ليس مع المرأة – فقد عقد العزم ألا يشعر بأي شيء تجاه الجنس اللطيف- بل بسبب الحزن الذي رآه في عينيها. نزل الدرج مقتربًا من الجميلة الصغيرة، مصممًا على مواساتها وإرشادها بحكمته، ارتاحت له الفتاة الجميلة على الفور وحكت له تفاصيل عذاباتها المريرة التي تسبب بها عمها المزعوم الذي حرمها من إرثها المختلق، كما روت له أساليب العنف الذي ادَّعت أنها لاقته من هذا العم.

وأردفت قائلة: “شكلك يوحي بأنك رجل حكيم وأنا موقنة بأنك ستكون قادرًا على إراحتي من هذا العذاب المرير الذي أعيشه إذا أتيت معي لمنزلي ورأيت بأم عينك ما يحدث لي”. لم يتردد ميمون في اللحاق بها ليتفحص أمورها بحكمة ويقدم لها مشورة سليمة.

قادت الفتاة المنكوبة ميمون إلى غرفة معطرة وبأدب جمّ دعته للجلوس معها على أريكة واسعة، حيث جلسا وجهاً لوجه، وكانت متحمسًة لتروي قصتها بينما راح ميمون يستمع باهتمام بالغ. تحدثت الفتاة بعيون مُسبلة تتساقط الدموع منها بين الفينة والأخرى، وفي اللحظات التي تجرأت فيها على رفعها، كانت تقع دائماً على عيني ميمون الحكيمة. غلب على لقائهما الشغف الذي كان يتضاعف كلما تلاقت أعينهما. أخذ ميمون ما قالته على محمل الجد وشعر على الفور بأنه مُلزم بهذه الإنسانة الحزينة والفاضلة. اقترب الاثنان من بعضهما مع حرارة المحادثة تدريجيًا، وقدم لها ميمون المشورة بحكمة بالغة، وأهداها أرق نصيحة.

وفي لحظة مُثيرة كهذه – يمكن تخيلها بسهولة- من تُراه سيدخل على الاثنين سوى العم؟ كان مسلحًا من رأسه حتى أخمص قدميه، وأول أمرٍ نطق به كان أنه مستعد لقتلهما على الفور!

علمت الفتاة التي شقت طريقها للهروب بأن ميمون سيعرض مبلغًا مجزيًا من المال لقاء حريته وفي سبيل العفو عنه. كان ميمون مجبرًا على شراء سلامته بكل ما كان يملكه من المال حينها. ففي هذه الأيام يُعد محظوظًا من يستطيع التملص من مواقف كهذه، فلم تُكتَشف أمريكا وقتها، ولم تكن النساء المكلومات بمثل خطورتهن الآن.

عاد ميمون إلى منزله متوشحًا بالخزي والحيرة. وفور دخوله المنزل وجد بطاقة دعوة إلى العشاء من بعض أصدقائه المقربين.

قال في نفسه: “إذا بقيت في المنزل وحيدًا ستحتل تفكيري هذه الحادثة المزعجة، ولن أكون قادرًا على أكل لقمة واحدة وسأمرض بالتأكيد. لذلك سيكون من الحصافة أن أذهب لمُلاقاة أصدقائي المقربين ومشاركتهم هذه المأدبة الزهيدة الثمن، وستنسيني مجالستهم تلك الحماقة التي ارتكبتها هذا الصباح بكل تأكيد”.

وعلى ذلك حضر ميمون اللقاء، وشعر أصدقاؤه بقلقه، لذلك حثوه على الشرب ونسيان كل ما جرى.

سوّغ الفيلسوف ميمون الأمر قائلًا: لا ضرر في قليل من النبيذ فهو يمنح قلب الرجل الراحة والطمأنينة. وثمل من فوره.

بعد انتهاء المأدبة حان وقت اللعب. قال ميمون: ” لا ضير في اللعب قليلًا مع أصدقائك المقربين”. لعب ميمون وخسر كل ما كان في حوزته، واستدان من أصدقائه وخسر 4 مرات أخرى. ثم نشب شجار بين الأصدقاء خلال اللعب واحتدم أكثر وأكثر. رمى أحد الأصدقاء مربع الزهر مباشرة نحو رأس ميمون ففقأ إحدى عينيه. في النهاية حُمِل الفيلسوف ميمون إلى بيته مخمورًا ومفلسًا وأعور العين.

نام من فوره، وعندما استيقظ وفاق من سكرته، أرسل خادمه إلى المصرف العام في نينوى ليسحب له بعض المال يدفع به دينه لأصدقائه. عاد الخادم وأخبره باحتيال البنك المركزي وإعلانه إفلاسه صباحًا؛ مما يعني انقلاب حال مئات العائلات إلى فقراء ومعوزين.  تمالك ميمون نفسه ووضع رقعة على عينه وعريضة في جيبه ثم ذهب إلى المحكمة ملتمسًا عدالة الملك. وفي صالة الاستقبال، صادف ميمون عدداً من السيدات الللآتي كُن بمعنويات مرتفعة يتجولن في الأرجاء بأحذية ذات كعب عالٍ.

 كانت إحداهن على معرفة سطحية بميمون وما إن رأت عينه حتى صاحت: يا إلهي، وحش مريع!

فيما كانت أخرى على معرفة أعمق بميمون ولهذا بادرته بالحديث: “صباح الخير سيد ميمون أتمنى أنك بخيرٍ”

– “كلا، لست كذلك!”

– “سيد ميمون هلا أخبرتنا كيف فقدت عينك؟” قالتها فيما تعثرت بكعبها وسقطت بعيدًا عنه!

اختبأ ميمون في إحدى الزوايا منتظراً اللحظة التي يستطيع فيها أن يرمي نفسه تحت قدميّ الملك، وقد حانت تلك اللحظة أخيراً. قبَّل ميمون الأرض ثلاث مرات ثم سلم عريضته.

استقبل الملك ميمون استقبالًا إيجابيًا وأحال العريضة إلى أحد حاشيته.

 أخذ المستشار ميمون جانبًا وقال له بغطرسة وابتسامة ساخرة: “أصغِ إلي أيها الأعور، لا بد أنك تتمتع بحس فكاهي وجراءة فجّة حتى تقدم خطابك للملك عوضًا عني، بل وتشتكي شخصًا محترمًا شرفته بحمايتي وهو بالمناسبة ابن شقيق زوجتي. صديقي، خذها نصيحة مني ولا تكمل دعواك إذا كنت تريد أن تحافظ على عينك المتبقية!”

انتكست حالة ميمون منذ أن وضع تلك الورقة في خزانته مقررًا التخلي عن كل ملذات الحياة من نساء ولهو وعازمًا ألا يدخل محكمة أبدًا؛  فخلال 24 ساعة فقط خُدع  وأسرف في الشرب واللعب واشتبك في شجار عنيف كانت نتيجته فقدانه لعينه، إضافة إلى ذهابه إلى المحكمة حيث أُهين وأصبح أضحوكة.

عاد إلى بيته محطم الفؤاد مصدومًا مما جرى يغمره اليأس والأسى. وما إن أوشك على دخول المنزل حتى منعه مجموعة من الضباط كانوا يصادرون أثاثه قضاءً لديونه. استلقى ميمون كميتٍ تحت شجرة الدلب، حيث رأى الفتاة الجميلة التي قابلها صباحاً تسير يداً بيد برفقة عمها، وما إن رأيا ميمون برقعة عينه حتى انفجرا ضاحكين.

ومع اقتراب المساء، صنع ميمون له فراشًا من القش بالقرب من جدران منزله. أحس ميمون بالقشعريرة، وغط في النوم مباشرة.

ظهر له ملاك في المنام. كان ملاكاً ساطعُا بستة أجنحة، بلا رأس أو قدمين، ولا مثيل له بين البشر.

قال له ميمون: “من أنت؟”

أجابه::أنا الملاك الحارس.”

رد ميمون: “إذن هلّا أعدت لي عيني وصحتي وثروتي وعقلي؟”. وروى له كيف فقدها جميعًا في يوم واحد.

أجابه الملاك: “هذه مغامرات لم تحدث أبدًا في العالم الذي أعيش فيه!”

رد عليه الرجل المُبتلى: “وما عالمك؟”

أجاب: “موطني نجم صغير بالقرب من الشِّعرى اليَمَانِيَّة يبعد عن الشمس حوالي خمسمئة مليون فرسخًا، ويمكنك رؤيته من هنا!”

أجاب ميمون بإعجاب: “يالها من دولة ساحرة!” وأردف قائلاً: “أليس لديكم مخادعون، أو أصدقاء مقربون ينهبون مال الشخص ويفقؤون عينه، أو إفلاس احتيالي، أو حاشية للملك تجعل منك أضحوكة بينما يرفضون إنصافك بالعدل؟”

أجاب ساكن النجوم: “كلا، ليس لدينا هذا النوع من الأشخاص! فنحن لا نُخدعُ من النساء لأنه لا وجود للنساء بيننا، ولا نفرط في الأكل والشرب لأننا لا نأكل ولا نشرب، ولا نفلس لأننا لا نمتلك ذهباً أو فضة، ولا يمكن اقتلاع أعيننا لأننا لا نمتلك أجساداً نفس التي تمتلكونها، ولم نظلم قط من حاشية الملوك، لأن الجميع سواسية في عالمنا!”

أجاب ميمون: “لطفك يا الله! كيف يمكنكم قضاء أوقاتكم دون نساء وطعام!”

أجاب الملاك: “نقضي أوقاتنا بحراسة العوالم التي أُنيط بنا مراقبتها، وأنا هنا الآن لمواساتك!”

ميمون: “واحسرتاه! لماذا لم تأت بالأمس لتمنعني من ارتكاب كل تلك الحماقات!؟”

أجاب الكائن السماوي: “كنت مع شقيقك الأكبر حسان. إنه في وضع يرثى له مقارنة بما جرى لك، فقد أمر السلطان العظيم حاكم الهند باقتلاع عينيه عقاباً على بعض الحماقات الصغيرة التي ارتكبها، وهو الآن مقيدٌ بالسلاسل في زنزانة تحت الأرض!”

ميمون: “وافرحتي! كم نحن محظوظون بهذا الملاك الحارس. لك أن تتخيل وجود ملاك حارسٍ كهذا في عائلة مكونة من شقيقين الأول أعور والثاني أعمى، الأول ممدد فوق الحصير والآخر في زنزانة قُرب الصين!”

الملاك: “سيتغير مصيرك قريبًا. صحيح أنك لن تستعيد عينك، لكنك ستكون راضيًا وسعيدًا إذا نزعت فكرة أن تكون فيلسوفا من رأسك!”

ميمون: “هل هي مستحيلة؟”

الملاك: “نعم، كاستحالة فكرة أن تكون حكيمًا بلا أي عيوب، أو قويًا بلا أي نقاط ضعف، أو سعيدًا طوال حياتك! فنحن بحد ذاتنا بعيدون كل البعد عن هذا. لكن في الحقيقة، هناك عالم مثالي يمكن أن تجد فيه كل هذه الأمور، ومع ذلك حتى هذا العالم مقسم إلى طبقات، ففيه تتوزع ملايين الكواكب في الفضاء الرحب. سترى بأن الفلسفة والمتعة التي في الطبقة الثانية أقل من تلك التي في الطبقة الأولى، وكذلك ينطبق الأمر على الطبقة الثالثة والرابعة، وهكذا دواليك حتى نصل إلى الطبقة الأخيرة حيث الغباء المطلق.”

ميمون: “أخشى أن يكون كوكبنا هذا بمنزلة مستشفى للمجانين مقارنة بملايين الكواكب التي ذكرتها”.

الملاك: “ليس تمامًا، إنما كل شيء يجب أن يكون في مكانه الصحيح”.

ميمون: “إذن هل كل أولئك الفلاسفة والشعراء الذين أخبرونا بأن كل شيء يحدث لسبب مخطئون؟”

الملاك: “كلا، إنهم مصيبون، إذا اعتبرنا أن كل شيء مرتبط بتدرج العالم أجمع.”

ميمون: “عجبًا!” ثم أردف: “لن أؤمن بذلك حتى أستعيد عيني!”


الإعلان

رأي واحد حول “الفيلسوف ميمون”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s