الكاتب: ليو تولستوي
المترجمة: هناء القحطاني
المدققة: شوق محمد
اجتمع ضيوف في بيت أحد الأغنياء ذات مرة، ودار بينهم حوار في غاية الجدية عن الحياة؛ إذ تحدثوا عن حضور الناس وغيابهم وما بين ذاك، ولم يكن ثمّة شخص واحد راض عن حياتهم بينهم.
لم يقتصر الأمر على وجود منغصات تجعل كلٌ منهم يتذمر حيال حياته ويندب سوء حظه، بل لم يكن بينهم شخص واحد عاش حياته كما ينبغي للرجل المتدين عيشها، إذ اعترف الجميع أنهم يعيشون حياة دنيوية، مهتمين بأنفسهم وعائلاتهم، وقلما يتفكرون في جيرانهم، أما أمور الآخرة فلا يتدبّرونها إلا ما ندر.
وعلى هذا، لآم الضيوف أنفسهم على حياتهم الدنيوية البعيدة كل البعد عن الدين.
فتحدث أحد الشباب قائلًا: إذًا لماذا نستمر بالعيش على هذا النحو؟ لماذا نقوم بأفعال لا نرتضيها؟ ألسنا من نتحكم بحياتنا؟ نحن على يقين بأن رفاهيتنا، وسلوكنا الغريب، وثرائنا الفاحش، وفخرنا على وجه الخصوص، وابتعادنا عن الدين هي أسباب خرابنا. إذ حرمنا أنفسنا من كل ما يمنح المرء متعة الحياة في سبيل الجاه والغنى، فاحتشدنا في المُدن، وتشبهنا بالنساء، ودمرنا طبيعتنا، وبغض النظر عن انحرافاتنا، فإننا نموت ضجرًا واشمئزازًا لأن ما نعيشه ليست هي الحياة المنشودة. لماذا نعيش هكذ إذن!؟ لماذا ندمر حياتنا على هذا النحو رغم كل كم الأمور الجليلة التي وهبنا الرب إياها؟ أعني لماذا نسأم الحياة كما سئمتها أنا؟ سأتخلى عن الدراسة التي بدأتها لسبب جليّ للجميع، فلن تقودني هذه الدراسة إلا إلى حياة العذاب التي نشتكي منها جميعًأ. سأتخلى عن ممتلكاتي وسأذهب للعيش مع الفقراء في القرية، سأعمل معهم، وسأتعلم حرفة يدويّة، واذا كانت ثقافتي مفيدة للفقراء سأشاركهم إياها ولكن ليس من خلال المؤسسات والكُتب، بل بصورة عملية عبر العيش معهم كما لو كُنت أخًا لهم”. ثمّ أضاف وهو ينظر إلى والده الذي كان حاضرًا الجلسة: “نعم، لقد اتخذت قراري”.
قال الوالد: “أتفهم موقفك النبيل، لكنه ينم عن غباء صارخ، دع عنك أنه ليس مدروسًا أصلًا. كل شيء يبدو لك في غاية السهولة لأنك يانع لم تخض غمار الحياة، فلم يظهر أمام عينك سوى جمالها. لكن الحقيقة هي أن منجزات المُثل العليا صعبة ومعقدة. فمن الصعب بما يكفي اتباع الطُرق المألوفة التي رسمها من سبقنا، فما بالك برسم مسارات جديدة وخوضها بمفردك أولًا! لا يستطيع شق هذه الطرق إلا رجال وصلوا لمرحلة من النضج والحكمة واستوعبوا ما في استطاعة الإنسان فعله. قد يبدو لك الاندفاع نحو طُرق جديدة في هذه الحياة أمرًا سهلًا لأنك لا تزال فتيًا لم تخضّ غمارها بعد، وهذا كله يعود لطيش الشباب وفخره. فغاية وجودنا نحن الشيوخ هو كبح جماح طيشكم وإرشادكم بحكمتنا، في حين يتعيّن عليكم أنتم أيها الشباب الاستماع لنا لاكتساب خبراتنا، فلا زلتم لم تعيشوا حياتكم بعد فأنتم في طور النمو والتعلم. لذا واصلوا تعليمكم وثقفوا أنفسكم بكلّ ما أؤتيتم من قوّة، استقلوا وكونوا قناعات راسخة تميزكم، ثمّ انطلقوا في الحياة بعدما تسلحون أنفسكم بما يكفي لمواجهتها. لكن الآن لابد لكم من اِتباع توجيه من سبقوكم لمصلحتكم والابتعاد عن التفكير في شقّ مسارات جديدة في هذه الحياة!”
لم ينبس الشباب ببنت شفة، بينما وافق كبار السن كلام الوالد.
ثم قال شاب متزوج في منتصف العمر موجهًا كلامه للأب: “صدقت القول، فقد يرتكب الشباب الذين يفتقرون لخبرات الحياة خطأ فادحًا أثناء محاولتهم سبر طُرق جديدة، إذ لا تُبنى قراراتهم على أُسس راسخة، لكن مثلما ترى فجميعنا – شيوخ وشبان- متفقون على أن حياتنا تعارض ضمائرنا وهذا سبب تعاستنا، لذا لا يسعنا سوى اعتبار رغبة الشاب في خوض مغامرة جديدة أمرًا جديرًا بالثناء.
ربما يتخذ هؤلاء الشباب مثلهم العليا بناء على سبب من الأسباب، لكنني لست فتيًا وسأحدثكم عن نفسي فقط. فأثناء إصغائي لحديثنا هذا المساء وردتني الفكرة ذاتها. فلا يمكن أن تمنحني الحياة التي أعيشها، وهي واضحة بالنسبة لي، ضميرًا هانئًا ولا سعادة أبدية. وهذا ما أثبتته لي التجارب والأسباب. فما الذي أحيا لأجله؟ نحن نكافح منذ شروق الشمس وحتى غروبها لكسب قوت نسد به رمق عائلتنا. لكن ما النتيجة؟ مواصلة عيش هذه الحياة الآثمة مع عائلاتنا والانغماس أكثر فأكثر في خطايانا. تعمل من أجل عائلتك، ولكن هذا لن يجعلهم أسعد الناس وأفضلهم. لذا لطالما فكرت في أنه من الأفضل لي تغيير حياتي وعيشها تمامًا كما اقترح هذا الشاب الفتي، أن أتوقف عن إزعاج نفسي بالتفكير في الزوجة والأطفال وعيشها لذاتي وحسب. فلم يقل القديس بولس “من يتزوج يفكر بزوجته أما من يأبى الزواج فهو يفكر في الإله” عبثًا!”
وقبل أن يكمل الرجل المتزوج كلامه قاطعنه النسوة المجتمعات ومن بينهن زوجته، وصاحت إحدى المسنّات قائلةً: “كان حريًا بك التفكير في هذا مبكرًا، فبمجرد إقدامك على أمر ما عليك إتمامه. فلو مشينا مع خطتك، سيحاول كل رجل الفرار بجلده عندما يجد أن الحفاظ على عائلته وسد رمقها أمرًا صعبًا، وما هذا الفعل إلا خديعة ومكر، فعلى الرجل الحقيقي السير على جادة الصواب في كل حال وزمان. من السهل على الرجل إنقاذ نفسه وحده، لكن هذا العمل مخالف لتعاليم الدين، إذ أمرنا الإله أن نحبّ بعضنا! وأنت بهذه الطريقة تسيء للآخرين وكأنك تفعلها باسم الإله. للرجل المتزوج إلتزامات محددة، وعار عليه التنصل منها. مع ذلك عندما يشب أفراد عائلتك ويشقون طريقهم في الحياة عندها فقط يمكنك فعل ما يحلو لك، لكن لا أحد أيًا كان يحق له ممارسة العنف تجاه عائلته تحت أي ذريعة.
امتعض الرجل المتزوج من هذا الكلام ورد قائلًا: “لم أقل أنني أريد التخلي عن عائلتي. كلّ ما أردت قوله هو عدم ضرورة إعالة الرجل لعائلته وأطفاله بطريقة دنيوية، أو تعليمهم العيش في سبيل متعهم كما كنا نقول آنفًا، بلّ علينا تربيتهم بطريقة نعود فيها الأطفال في سنٍ مبكرة على معيشة الفقراء، وعلى العمل ومساعدة الآخرين، وفوق كل هذا زرع مبادئ الأخوة في قلوبهم، ومن أجل فعل هذا من الضروري التخلي عن كل الثروات والامتيازات في هذه الحياة.
ردت زوجته بحدة: “ليس ثمّة معنى لتدخلك في حياة الآخرين فيما أنت ذاتك تعيش حياة بعيدة كل البعد عن حياة الزاهدين، فأنت كرست حياتك لإشباع رغباتك مذّ كنت فتيًا، فلماذا إذًا ترغب في تعذيب أطفالك وعائلتك؟ دعهم ينشأون في سلام، ثمّ سيقومون بما يميليه عليه ضميرهم، لكن لا تجبرهم على هذا!”.
ظلّ الرجل المتزوج صامتًا، بيد أن شيخًا من الحضور تصدر المشهد منافحًا عنه:
“بدءًا دعونا نتفق بأنّه من الصعب على ربّ الأسرة حرمان عائلته من كل المتع التي عودهم عليها فجأة دون مقدمات، لكن في حال بدأت تربية أطفالك على ذلك مبكرًا، سيكون سهلًا عليك تنفيذ مخططاتك عوضًا عن فرضها عليهم. وزد على ذلك، سيختار الأطفال خلال نشأتهم الطريق الذي يعتقدون أنه الأفضل بالنسبة لهم، لذا اعترف بأنه من الصعب- إن لم يكن ضربًا من المستحيل- على ربّ الأسرة تغيير حياته دون ضرر، لكن هذا واجب علينا نحن كبار السن. سأتكلم عن نفسي، فأنا أعيش اليوم دون مسؤوليات، ولأكون صادقًا أكثر، أعيش لأملا بطني بصحيح العبارة، فكل ما أفعله هو الأكل والشرب والراحة وهذا أمر يثير اشمئزازي إذ أنه مخالف لما خلقني الله له. لذا فالوقت مناسب بالنسبة لي للتخلي عن هذه الحياة وتوزيع ممتلكاتي، وعيش ما تبقى من عمري كما أمرني الله”.
عارض بقية الحضور كلام الرجل الهرم، وكانت ابنة اخيه وابنته بالمعمودية وكل الأشخاص الذين قام برعاية أطفالهم والتكفل بهدايا أعيادهم وابنه الوحيد بينهم. جميعهم عارضوا منطِقه معارضة شديدة.
قال ابنه: “مع كامل احترامي لك يا أبي إلا أنني أعارضك، إذ أنّك تعمل جاهدًا في يومك لذا تستحق الراحة، وليس لديك أدنى حق في جلد ذاتك. عشت ستين عامًا تتبع مبادئك الشخصية، لذا ربما يكون من المستحيل تغييرهم، وعلى هذا فأنك ستعذب نفسك دون مقابل”.
وردت ابنة أخيه تأكيدًا على هذا الكلام: “ستعيش حياة الحاجة، وستعاني التعاسة، ستعيش متذمرًا وترتكب أشنع الخطايا، بيد أن الإله رحيم وغفور يعفو عن كل الخطائين.. فليس مثله أحد”!
وسأل شيخ آخر معاصر للعم الهرم متعجبًا: “صحيح، لكن لماذا يجب علينا التمتع بهذه الحياة؟ فنحن في آخر أيامنا، ولا نضمن أن نعيش حتى الغد، لذا ما جدوى البدء من جديد؟”
وهتف ضيف لم يشاركهم الحوار حتى اللحظة: “ياله من أمر عجاب! جميعنا نعترف بمدى روعة عيش المرء حياة تتسمّ بالزهد والعبودية، ونعرف جيدًا مدى سقم الحياة والمعاناة النفسية والجسدية التي نعيشها، لكن ما إن نصل هذه النقطة حتى نقول أنه من المستحيل التدخل في حياة أطفالنا وأن علينا تربيتهم بالطريقة القديمة عوضًا عن الطريقة الدينية المفعمة بالروحانية. بل نستصعب هرب الشباب من إرادة أهاليهم، لكن نفرض عليهم العيش بالطريقة التقليدية عوضًا عن تلك الروحانية. ويستطيع ربّ الاسرة تقييد حرية زوجته وأطفاله، لكن يجب عليه العيش بطريقة تقليدية عوضًا عن حياة الزهد. ولا يُمكن للشيوخ عيشها أيضًا فهم غير متعودين عليها، دع عنك أنه لم يبقَ من أعمارهم إلا القليل. والمحصلة إنه من المستحيل أن يعيش المرء حياة الزهد والسلام، لكنّه يستطيع التحدث عنها فقط”.