أدب رومنسي, جريمة, دراما

جريمة ساق العجل

  • الكاتب: روالد دال
  • ترجمة: رزان العيسى
  • تدقيق: راشد التميمي

كانت “ماري مالوني” تنتظر قدوم زوجها من العمل في غرفة دافئة ونظيفة، ستائرها مُنسدلة، ومُضاءة بمصباحين، أحدهما على الطاولة بجانبها والآخر مقابل الكرسي الفارغ أمامها. وعلى طاولة الطعام وراءها وُضع كأسان طويلان ومياه صودا وكحول ومكعبات ثلج في سطل حافظ للبرودة.

كانت تنظر بين الحينة والأخرى إلى الساعة، ليست نظرة قلق بل بنظرة متعة؛ إذا إنها كانت تشعر بأن كلّ دقيقة تمرّ عليها تُقرّبها من لحظة لُقياها به. انتشرت في الأجواء مشاعرها السعيدة وانعكس ذلك على كلّ عمل قامت به. مالت برأسها على الخياطة بهدوء يُثير فضول من يراها. أضفى حملها في الشهر السادس شفافية رائعة على بشرتها، كان فمها ناعمًا، وبدت عيناها في مظهرها الناعم والجديد أكبر وأغمق من قبل. عندما أشارت عقارب الساعة إلى الخامسة إلّا عشر دقائق بدت تُنصت بمسامعها، وبعد لحظات تناهى إليها، كما هو الحال دائمًا، صوت الإطارات على الحصا، وإغلاق باب السيّارة بقوة، وخطوات تعبر من عند النافذة، وأخيرًا دوران المفتاح في مقبض الباب. وضعت عمل الخياطة جانبًا، ووقفت وسارت إليه لتُقبله عند دخوله.

حيّته: “أهلًا بك عزيزي”

ردّ عليها: “مرحبًا عزيزتي”

أخذت معطفه وعلّقته في الخزانة، ثمّ ذهبت لإعداد المشروبات، شرابٌ قوي له وآخر خفيف لها، ثمّ عادت إلى كرسيّها لتستأنف الخياطة، وهو في المقابل كان يحمل الكأس بكلتا يديه ويهزه، لتصطدم مكعبات الثلج بحواف الكأس.

كانت دائمًا ما تعتبر هذا الوقت من اليوم وقتًا سعيدًا، وتعلم أنه لا يريد التحدث كثيرًا إلى انتهائه من تجرّع أول كأس له، أما هي فكانت راضية بالجلوس بهدوء والاستمتاع برفقته بعد ساعات طويلة من البقاء وحيدة في المنزل. كانت تُحب شعور الترف الذي ينتابها بحضور هذا الرجل، فشعورها تجاهه كان مماثلًا لما يشعر به المتشمس تجاه الشمس، فدفئه كان ينبثق منه إليها عندما يختليان بنفسيهما معًا. أُعجبت بكل شيء فيه، بدءًا من جلسته المرتاحة على الكرسي، إلى طريقة دخوله من الباب، وانتهاءً بكيف يتنقل بين الغرف بخُطاً واسعة. وأحبت أيضًا الإصرار الذي يشع من عينيه عندما ينظر إليها، وشكل فيه الغريب، وأحبت على وجه الخصوص سكونه عند تعبه، حيث يجلس مع نفسه حتّى يبدأ مفعول الكحول عليه.

–  تعبان عزيزي؟

قال لها وهو يرفع الكأس الممتلئة للنصف على الأقل ويتجرّع ما بقي فيها دفعة واحدة، ولم يكن هذا التصرف من عادته قط!: نعم، إنني متعب. لم تكن تراقبه بعينيها، لكنها علمت ما فعله بسبب صوت ارتطام الثلج بنهاية الكأس الفارغة عندما أنزلها. توقف لحظة، ثم مال بجسده إلى الأمام، ووقف ليذهب ويسكب له كأساً آخر.

قفزت من مكانها وهي تقول بصوت عالٍ: سأحضره لك!

– قال لها: اجلسي.

لاحظت عند رجوعه أنه خلط الكحول بشراب آخر أقوى، فأصبح لونُ المشروبِ بُنيًّا قاتما.

–  هل أجلب لك خُفيّن يا عزيزي؟

–   لا.

كانت تُراقبه وهو يرتشف الشراب ذا اللون الأصفر الغامق وقد ظهر على سطحه طبقة زيتية بسبب حدته العالية.

قالت له: أعتقد أنه من المخجل أن يجعلوا شرطيًا له خبرة طويلة مثل خبرتك أن يسير طويلًا على قدميه طَوال اليوم.

لم يردّ عليها، فمالت برأسها من جديد نحو خياطتها، ولكن في كل مرّة كان يرفع فيها الكأس إلى شفتيه كانت تسمع صوت ارتطام مكعبات الثلج بنهاية الكأس.

قالت له: عزيزي، هل تريد أن أحضر لك بعضًا من قطع الجبن؟ فأنا لم أعد شيئًا للعشاء لأنه يوم الخميس.

–        ردّ عليها: لا

أردفت قائلة: إن كنت متعبًا ولا تريد الخروج، فلم يتأخر الوقت كثيرًا بعد، هناك الكثير من اللحوم والطعام في الفريزر، يمكنك تناولُ عشائك هنا من دون أن تتحرك حتّى من الكرسي.

انتظرت عيناها أي إجابة منه كابتسامة مثلًا أو إيماءة بسيطة، لكنه لم يتجاوب معها مطلقًا.

أكملت: على العموم، سأحضر لك أولًا جبنًا وبسكوتًا.

قال لها: لا أريد.

تحرّكت بصعوبة في كرسيها، وتلك العينان الواسعتان لا تزالان تراقبانه: لكن يجب أن تأكل! سأعدها على أية حال، ثم يمكنك تناولها أو تركها كما تريد. ووقفت ووضعت خياطتها على الطاولة بجانب المصباح.

قال لها: اجلسي، دقيقةً واحدة فقط، اجلسي.

في تلك اللحظة فقط بدأت تخاف.

أكمل: هيّا، اجلسي.

أرجعت جسدها إلى كرسي ببطء، وراقبته بعينيها الواسعتين والمتحيّرتين. أنهى كأسه الثاني ومال برأسه نحو الكأس وجلس يتأمله بوجه عابس.

قال لها: اسمعي، لدي ما أخبره لك.

–        ما هو يا عزيزي؟ ما الأمر؟

تحوّل الآن إلى شخص عديم الإحساس، كان رأسه لا يزال مائلًا للأسفل، فسقط ضوء المصباح الذي بجانبه على الجزء العلوي من رأسه فقط، في حين غرق فكه وفوه في الظلام. لاحظت من شدّة الضوء وجود عضلة تتحرك بالقرب من زاوية عينه اليسرى.

قال لها: أخاف أن أصدمك بما سأقوله لك، لكنني فكرت في الأمر مليًا، ووجدت أن الحل الوحيد هو إخباره لك مباشرة، وآمل أن تتفهمي موقفي قليلًا. أخبرها بالأمر، لم يأخذ من وقته الكثير، أربع إلى خمس دقائق على أعلى تقدير، لكنها بقيت صامدة طَوال تلك الفترة، كانت تراقبه والرعب يملؤها وهو يبتعد عنها أكثر وأكثر مع كل كلمة ينطقها.

أضاف أخيرًا: هذا كل ما في الأمر، أعلم أن التوقيت سيئ نوعًا ما بالنسبة لك، ولكن لم تكن هناك وسيلةٌ أخرى. وبالطبع سأنفق عليك وسأعتني بك، لكنني لا أريد أي هرج ومرج، فذلك سيؤثر كثيرًا على وظيفتي.

شعرت في البداية أنها يجب ألا تصدق أي شيء مما ذكره، وأن تُنكر الأمر مطلقًا. وخطر ببالها أنه لم يتكلم معها من الأساس، وأن كل ذلك كان من وحي خيالها فقط. فربما لو انهمكت في أعمالها ومثلّت أنها لم تسمع شيئًا، ستستيقظ في الصباح التالي وكأن شيئاً لم يكن.

تمالكت نفْسَها وهمست: سأعد العشاء. ولكنه لم يوقفها هذه المرة.

لم تشعر بقديمها تلامسان الأرض عندما عبرت الغرفة، في الحقيقة، لم تشعر بأي شيء على الإطلاق سوى غثيان ورغبة في التقيؤ. نزلت الدرج إلى المخزن بتلقائية متناهية، أشعلت الأنوار، لفحتها برودة الفريزر الشديدة، وضعت يدها في أعماقه وأمسكت أول شيء لامس أصابعها. أخرجته، ونظرت إليه، كان شيئًا ملفوفًا بالورق، أزالت الورق ونظرت إليه مجددًا.

كان ساق عجل.

إذًا، سيتناولان لحم العجل للعشاء. حملت الساقَ إلى أعلى الدرجِ ممسكةً نهايةَ العظمة بكلتا يديها، وعندما دخلت غرفة المعيشة رأته يقف أمام النافذة موجهًا ظهره أمامه، فتوقفت.

قال لها من دون أن يلتفتَ إليها: بالله عليك! لا تعدي لي العشاء، سأخرج.

في تلك اللحظة، سارت “ماري مالوني” بكل خفّةٍ وراءه ومن دون أن تتردّد على الإطلاق، رفعت ساق العجل المتجمد عاليًا في الهواء ثم أنزلته بأكبر قوة لديها على رأسه من الخلف. بات الأمر وكأنها ضربته بهراوة فولاذية. تراجعت خطوة للخلف، وانتظرت، الأمر الغريب أنه بقي واقفًا خمس أو أربع ثوان، ثمّ مال ببطء، حتى سقط على السجادة.

استيقظت من صدمتها بفعل اصطدامه العنيف والمزعج على السجادة والذي تسبب بانقلاب الطاولة. بدأت تستوعب فعلتها، فسارت برودة في أطرافها واتسعت عيناها من الدهشة، وفي موقف مثير للسخرية وقفت مكانها متأملة الجثة أمامها وهي لا تزال تحمل في يدها قطعة اللحم بقبضة محكمة بكلتا يديها. قالت لنفسها: حسن إذن، لقد قتلته.

وفجأة، انقشعت الغمامة الضبابية من أمام عينيها، فبدأت تفكر بسرعة. فهي تعرف بصفتها زوجة محقق العقوبة المنتظرة، إلا أنها لم تتأثر، فالأمر سيان بالنسبة لها، بل سيكون في الواقع راحة لها. لكن من ناحية أخرى، فكّرت، ماذا عن الطفل؟ ماذا ينصّ القانون بشأن القاتلات اللاتي يحملن أطفالًا بداخلهنّ؟ هل يقتلون الأم وطفلها؟ أم ينتظرون حتّى الشهر العاشر؟ أو ماذا يفعلون يا تُرى؟

لم تعرف “ماري مالوني” أي جواب لهذه الأسئلة، لكنها لم تكن مستعدة للمخاطرة. أخذت قطعة اللحم إلى المطبخ، وضعتها في صينية الطبخ، وأشعلت الفرن على حرارة عالية، وأدخلت اللحم فيه. ثمّ غسلت يديها وركضت إلى غرفة النوم بالأعلى. جلست أمام المرآة، رتبت شعرها، ولمست شفتيها ووجهها، حاولت أن تبتسم، فخرجت ابتسامة غريبة، لكنها حاولت مرّة ثانية.

قالت بصوت عالٍ يملؤه الحياة: مرحبًا “سام”! إلا أن صوتها بدا غريبًا أيضًا. أكملت: أريد بعض البطاطس يا سام، وعلبة بازلاء. كان صوتها أفضل هذه المرّة، فقد تحسنت ابتسامتها وصوتها أيضًا الآن. وتدربت عليهما عدّة مرات. ثمّ نزلت الدرج، وأخذت معطفها، وخرجت من الباب متجهة إلى الحديقة ثمّ إلى الشارع.

لم تكن الساعة قد وصلت إلى السادسة بعد إلا أن أنوار البقالة كانت لا تزال مضاءة.

قالت بصوت حيوي، وهي تبتسم للرجل الواقف أمام طاولة الحساب: مرحبًا سام!

–        يا لها من مفاجأة! مساء الخير سيدة “مالوني” كيف الحال؟

–        أريد بعض البطاطس يا “سام” وعلبة بازلاء.

–        استادر الرجل وأحضر لها من الرف علبة البازلاء.

قالت له: “باتريك” تعبان لذلك قرّر أنه لن يخرج لتناول العشاء في الخارج الليلة. فنحن غالبًا، كما تعرف، نخرج يوم الخميس، والآن ها قد اكتشف أنني لم أحضر أية خضار للمنزل.

–        وهل لديك لحم سيدة “مالوني”؟

–        لدي اللحم، شكرًا لك، لدي ساق عجل رائعة في الفريزر.

–        حسنًا إذن.

–        لا أعرف طريقة طبخ اللحوم المجمدة في الواقع يا “سام”، لكني سأحاول هذه المرة. هل تعتقد أن الطبخ سيكون جيداً؟

قال لها صاحبُ البقالة: شخصيًا لا أرى أي فرق بين الطعام المجمد والطازج، هل تريد من هذه البطاطس؟

–        نعم، أريد اثنتين منهما.

مال صاحب البقالة برأسه جانبًا، ونظر إليها بسرور وقال: تريدين شيئًا آخر؟ ما التحلية؟ ما الذي ستعدينه لتحلية ما بعد العشاء؟

–        إمممم، ماذا تقترح لي يا “سام”؟

جال الرجل ببصره حول البقالة، ثم قال: ماذا عن قطعة كبيرة من التشيزكيك؟ أعرف أنه يحبها.

ردّت عليه: رائع، بالفعل هو يحبها.

غلّف لها كل حاجاتها ودفعت له بالمقابل، وابتسمت له ابتسامة عريضة وقالت: شكرًا لك “سام” عُمْتَ مساءً.

–        عُمتِ مساءً سيدة “مالوني” وشكرًا لك.

والآن وهي متجهة للعودة إلى منزلها بخُطاً متسرعة، أخبرت نفسها أن كل ما تفعله الآن هي أنها عائدة للمنزل وإلى زوجها وأنه كان ينتظر العشاء الذي يجب أن تطبخه بمهارة، ليكون لذيذاً لأقصى درجة؛ لأنّ الرجلَ المسكين كان متعبًا، وأنها لو دخلت المنزل ورأت -لا قدر الله- أيَّ شيءٍ غريب أو مأساوي أو مريع، فمن الطبيعي أن يكون ذلك صدمة لها وأن تصرخ صرخةً تملؤها الحزن والرعب. ولتتذكر، أنها لم تكن في الأصل تتوقع حدوث أي أمر. فهي كانت عائدةً فقط إلى المنزل بعد أن اشترت الخضار. فزوجة “باتريك مالوني” عائدة إلى المنزل ليلة يوم الخميس وبيديها الخضار لتطبخ العشاء لزوجها. وقالت لنفسها، تصرّفي بكل طبيعية وبتلقائية، ولا حاجة أبدًا لأي تمثيل.

لهذا السبب كانت تتحدث عاليًا إلى نفسها والابتسامة ترتسم على وجهها عند دخولها من باب المطبخ الخلفي.

نادت: “باتريك”، كيف حالك يا عزيزي؟

وضعت مشترياتها على الطاولة وذهبت إلى غرفة المعيشة، وأصابتها صدمة قوية عند رؤيتها له مُلقًى على الأرض وساقاه ملتفتان على بعضهما وإحدى يديه ملتوية تحت جسده. كل الحُبّ القديم والحنين لامسا أوتارَ قلبِها، فركضت نحوه ومالت بجانبه وبدأت تبكي من أعماقها. كان الأمر سهلًا حقًا، فهو بالفعل لم يتطلبْ أيَّ تمثيل.

بعد مرور عدة دقائق وقفت واتجهت نحو الهاتف، كانت تعرف رقم مركز الشرطة، وعندما رفع الرجل من الجهة الأخرى الهاتف صرخت قائلة: أسرِعُوا! تعالَوا بسُرعة! “باتريك” مات!

–        من المُتحدث؟

–        السيدة “مالوني” زوجة “باتريك”.

–        هل تعنين أن “باتريك” قد مات؟

–        تخلل كلامها الدموع وهي تقول: أعتقد ذلك، فهو مُلقًى على الأرض وأعتقد أنه ميت.

قال الرجل: سنأتي حالًا.

وصلت السيارة إليها سريعًا، وعندما فتحت الباب دلف شرطيانِ إلى المنزل. كانت تعرف كلا الرجلين، فهي في الحقيقة كانت تعرفُ جميعَ من يعمل في مركز الشرطة تقريبًا، ألقت بجسدها على الكرسي ثمّ انضمّت إلى الشرطي “أومالي” المائل على الجثة.

بكت قائلة: أهو ميت؟

–        يبدو ذلك مع الأسف، ماذا حدث؟

أخبرته باختصار عن قصتها، بدءًا من ذهابها إلى البقالة، وانتهاءً بعودتها لتجدَه مُلقًى على الأرض. وفي أثناء حديثها المليء بالدموع والتوقفات، اكتشف الشرطي “نونان” بقعةَ دمٍ صغيرة متجمدة على رأس الرجل الميت. أراها لـ”أومالي” الذي ذهب بدوره بسرعة إلى الهاتف.

وبعد فترة قصيرة بدأ رجال آخرون بالتوافد إلى المنزل. جاء الطبيبُ أولًا، ثمّ محققان تعرفهما باسميهما. بعدها وصل مصوّر الشرطة لالتقاط الصور، ورجل متخصص في البصمات. كانت هناك جلَبةٌ كبيرةٌ حول الجثة، وكان المحققان يسألانِها الكثيرَ من الأسئلة، إلا أنهما كانا يُعاملانها بلطف بالغ. أخبرتْهما قصتَها مرةً أخرى، وهذه المرةَ من البداية، عند عودة “باتريك” وهي تُخيّط، وأنه كان متعباً لدرجةِ أنه لم يرغب في الخروج لتناول العشاء خارجًا. كما أخبرتهما كيف وضعتِ اللحمَ في الفرن وأضافت لهما “وهو الآن في الفرن يطبخ”، وكيف أنها خرجت إلى البقالة لشراء الخضار، وأنها عند عودتها وجدته ملقًى على الأرض.

سألها أحدُ المحققين: أي بقالة؟

أخبرته بمكانها، ثم التفت إلى المحقق الآخر وهمس بشيءٍ ما في أذنه، فخرج بدوره إلى الشارع مباشرة.

وعاد بعد خمسَ عشرةَ دقيقةً بملاحظات عديدة مكتوبة على الورق. ازداد صوتُ الجلَبة، وسمعت وسط بكائها بعض الكلمات التي كانوا يتهامسون بها “كانت طبيعية جدًا … سعيدة للغاية … أرادت أن تعدّ له عشاءً لذيذًا … بازلاء … تشيزكيك … من المستحيل أنها …”

بعد مرور بعض الوقت، خرج المصور والطبيب، ودخل رجلان، وحملا الجثة على نقّالة، ثمّ تبعهما المختصُّ في البصمات. إلا أن المحققين بقيا إلى جانب الشرطيين. كانوا جميعًا في غاية اللطافة معها، لدرجة أن “جاك نونان” سألها ما إن كانت ستذهب إلى مكان آخر مثل منزل أختها أو إلى زوجته التي ستعتني بها الليلة.

قالت له بأنها لن تذهبَ إلى أي مكان، وأنها تشعر بأنها لا تستطيع أن تتحركَ أي شبر آخر حاليًا. وسألتهم إن كانوا يُمانعون بقاءها في منزلها إلى أن تشعر بالتحسن، فهي لا تشعر أنها بخير الآن على الإطلاق.

قال لها “جاك نونان”: من الأفضل إذن أن تستلقي على السرير.

ولكنها رفضت عرضه قائلةً بأنها تُفضِّلُ البقاءَ في مكانها على الكرسي، وأنها ستتحرك بعد فترة يسيرة إن تحسنت.

فتركوها في مكانها وباشروا عملهم بالبحث في أرجاء المنزل. ومن الحين والآخر كان أحد المحققين يطرح سؤالًا عليها، ثم يواسيها “جاك نونان” بكلمات لطيفة عند مروره بجانبها. فقد أخبرها أن زوجها قد قُتل بضربه على مؤخرة رأسه، باستعمال أداة ثقيلة وحادة، غالبًا ما تكون قطعةَ حديد ثقيلة. وأنهم يبحثون عن السلاح الذي أخذه القاتل معه في الغالب، لكن من الممكن أنه قد رماه بعيدًا أو خبّأه في مكانٍ ما في المنزل.

أكمل قائلًا: “كما يقول المثل القديم، اعثر على السلاح لتجد المجرم”.

وبعد وهلة، جاء أحد المحققين وجلس بجانبها وسألها ما إن كان هناك أي أداة في المنزل ممكن استعمالها كسلاح؟ وإن كانت توافق على أن تبحث في المنزل عن أي شيء مفقود مثل مفك براغي ضخم، أو فازة ثقيلة من الحديد.

قالت له إنهم لا يمتلكون أي فازة ثقيلة من حديد.

–        ومفك براغي ثقيل؟

أوضحت أنها لا تتوقع أنهم يمتلكون واحدًا، ولكن قد يكون هناك واحد في الكراج.

استمر الرجال في مهمّة البحث، علمت بوجود بعض رجال الشرطة في حديقة المنزل، فقد كانت تسمعُ وقْعَ أقدامِهم على الحصى في الخارج، وبين الحين والآخر كان ضوء المصباح اليدوي يلمع من بين الستائر. بدا أن الوقت تأخر، فقد أشارت عقاربُ الساعةِ الموضوعة على رفٍّ إلى التاسعة. وبات الرجال الأربعة المنغمسون في رحلة البحث يضجرون ويستاؤون.

قالت للرقيب عندما مرّ بجانبها: هلّا ناولتني كأسًا من الشراب يا “جاك”؟

–        بالطبع، أتريدين هذا الكحول؟

–        نعم من فضلك، لكن اسكب لي كأسًا صغيرة لأتحسنَ فقط.

وعندما ناولها الكأس قالت له: “لمَ لا تشرب كأسًا؟ تبدو متعبًا للغاية، أرجوك.. اشرب كأسًا، فقد كنت طيبًا معي.

 أجابها: لا يُسمح لنا بالشرب أثناء المهمّة أبدًا، لكني سأرتشفُ القليلَ منه فقط، ليمنحني بعضَ الطاقةِ للإكمال.

توافدوا الواحد تلو الآخر وقد أقنعتهم بارتشاف الشراب. وقفوا حولها بمنظر غريب والكؤوس في أيديهم، شاعرين بعدم الارتياح بحضورها، ومحاولين مواساتَها ببعض الكلمات. تجوّل الرقيب “نونان” في المطبخ ثمّ عاد مسرعًا وهو يقول: السيّدة “مالوني”، أتعلمين أن الفرنَ مشتعلٌ وبداخله اللحم؟

صرخت: يا رباه! صدقت إنه مشتعل!

–        من الأفضل إذن أن أطفئه؟

–        سأكون شاكرة يا “جاك”.

وعندما عاد الرقيب من المطبخ حملقت فيه بعينيها الواسعتين ذواتي العدستين الغامقتين والمُقلتين المتحجرتين بالدموع، ونادته: “جاك نونان”؟

–        نعم؟

–        هلا أسديت لي أنت وزملاؤك معروفًا بسيطًا؟

–        سنبذل ما في وسعنا السيّدة “مالوني”.

قالت لهم: بما أنكم جميعًا هنا، وقد كنتم خيرَ صُحبةٍ لـ”باتريك”، وها أنتم تحاولون الإمساك بالرجل الذي قتله. فبالتأكيد أنكم تتضورون جوعًا، خاصّة أن وقت وجبة العشاء مرّ منذ وقت طويل. كما أن “باتريك”، رحمة الله عليه، لن يُسامحَني إن لم أُضيّفْكم في منزلنا بما يليق بمقامكم. فهل أكلتم لحمَ العجلِ الذي في الفرن؟ فهو سيكون جاهزاً الآن.

قال الرقيب “نونان”: ما حلمنا بذلك من قبل!

توسلت إليهم: أرجوكم تناولوه، فأنا لا أستطيع ان أضع أي شيء في فمي الآن، ليس بعد رحيله عن هذا المنزل بالطبع. لكنكم تستطيعون أكله، ستسدون صنيعًا لي إن أكلتموه، وبعد تناولكم له استأنفوا عملَكم.

تتردّد رجالُ الشرطةِ الأربعةُ كثيرًا، لكنهم كانوا يتضورون جوعًا، وفي النهاية تمكنت من إقناعهم بالذهاب إلى المطبخ وتجهيز الطعام بأنفسهم. فيما بقيت هي في مكانها تستمع إليهم وهم يتكلمون فيما بينهم بأصوات ثقيلة وغير واضحة، بسببِ اللحم الذي يملأ أفواهَهم.

–        تناول المزيد “تشارلي”.

–         لا شكرًا لك، فمن الأفضل ألا ننهيه.

–        تريدنا هي أن ننهيه، هذا ما قالته لنا فبذلك سنسدي إليها معروفًا.

–        حسنًا إذن، أعطني المزيد.

 قال أحدهم: قُتل “باتريك” المسكين بهراوة كبيرة مميتة! فقد قال الطبيب إن جمجمته تهشّمت إلى أشلاء، وكأنها ضُربت بمطرقة كبيرة.

–        لذلك سيكون العثور على السلاح أمرًا سهلًا.

–        هذا ما أظنه ايضًا.

–        لن يحمل مرتكب الجريمة السلاح معه وقتاً أطول مما يحتاج إليه.

تجشأ آخر وقال: شخصيًا، أظن أن السلاح يقبع هنا في هذا المنزل، وغالبًا ما سيكون هنا أمام أعيننا. ما رأيك “جاك”؟

أما “ماري مالوني” الجالسة في الغرفة الأخرى، فقد كانت تقهقه.


الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s