تأملات

كوكو

  • الكاتب: غي دو موباسان
  • ترجمة: أمل المانع
  • تدقيق: راشد التميمي

في جميع أنحاء ذلك الريف كانت مزرعة عائلة لوكاس وحدها التي تُعرف ﺑ”العزبة”، ولم يُعرف سبب التسمية مطلقا. وبلا شك فقد ربط الفلاحون هذه الكلمة بمعنى الثراء والروعة لما كانت عليه هذه المزرعة، فهي الأكبر مساحة والأكثر ثراءً والأفضل إدارة في الحي بأكمله.

وأحاطت هالة الأشجار المهيبة بصفوفها الخمسة ذلك الفناء الشاسع مما كوّن حصناً يصون أشجار التفاح الهشّة من رياح السهل العاتية المطوّق بمباني الطوب الطويلة المخصصة لتخزين العلف والحبوب، وبنيت الإسطبلات الرائعة من حجر صلب والمصممة لتسعة وثلاثين جواداً. كما قبع ذلك المسكن المصنوع من الطوب الأحمر والذي بدا كقصرٍ ريفيٍ صغير.

وكان كل ذلك بفضل العناية الجيدة بهذه المزرعة. كانت أكوام السماد بغيضة بقدر ما تكون هذه الأشياء، وقطنت كلاب الحراسة في مرابيها، وتناثر قطيع الدواجن اللامتناهي وسط الحشائش الطويلة.

في كل ظهيرة يأخذ ١٥ فردًا من السادة والعمّال ونساء العائلة مقعده حول طاولة المطبخ الممتدة التي يقدّم عليها وعاءٌ كبيرٌ مزخرفٌ بالورود الزرقاء، وبه حساءٌ يتصاعد بخاره.

كانت البهائم من الأجياد والأبقار والخنازير والأغنام في غاية صحتها ونظافتها. السيد لوكاس، ذلك الرجل الطويل الذي تزداد جسامته مع مرور الوقت، اِعتاد أخذ ثلاث جولات يومياً، للإشراف على الأمور وتقدير كل شيء.

هناك حيث كان ذاك الجواد الأبيض المعمّر الذي رغبت سيدته بإبقائه في المزرعة حتى توافيه المنيّة، فكيف يمكنها التخلي عنه وهو الذي ترعرع بين يديها وقضى عمره في خدمتها، كيف؟ وتربطهما الكثير من اللحظات السعيدة والمبهجة؟ كل ذلك دفعها إلى إيوائه بعطفها الشديد في نهاية الإسطبل.

آيزيدور دوفال ذلك الشاب الشقي ذو الخمسة عشر ربيعاً، والذي ينده له بزيدور لتسهيل نطق اسمه، اعتنى هذا الشاب بالجواد المتقاعد ووضع له قدره من الشوفان والعلف لفصل الشتاء، وفي فصل الصيف كان عليه تغيير مكان مرعى الجواد عدة مرات في اليوم ليحصل على أعشاب طازجة.

نهض الجواد الأعرج بصعوبة، فقد كانت ركبتاه متضخّمتين وحوافره تعلوها التورمات، وشعره الأشعث الذي لم يعد يُمشّط بدى كشعرٍ يعتريه الشيب، كما أضفت أهدابه الطويلة مسحة شجيّة لعينيه.

عند أخذ زيدور الجواد إلى المرعى كان يتحتّم عليه سحب الحبل بكل ما أوتي من قوة لشدّة بطء سير الجواد، أنحى الشاب لاهثاً ثم شرع في شتمه بسخطٍ لتعيّنه على العناية بهذا الفرس الكهل.

لاحظ الفلاحون حنق الشاب الشرير تجاه كوكو، فكانوا يتسلون بذلك ويتحدثون إلى زيدور عن الجواد لإثارة سخطه. كان رفاقه يمازحونه حيث يدعونه في القرية باسم: “كوكو زيدور”.

استشاط الشاب غضباً واعترته رغبة شيطانية بالانتقام، فصبَّ غضبه على الجواد. كان صبيًّا بذيئا وهزيل البنية ذا ساقين طويلين وشعرٍ كثيف وأشعث ذي صبغة حمراء، بدى مغفلاً ومتلعثماً كما لو أنه غير قادر على ترتيب الأفكار في عقله البليد والبهيمي.

ومنذ وقت طويل عجز الشاب عن فهم فكرة الاحتفاظ بكوكو، ناقماً على رؤية هذه الموارد تذهب سُدًى على هذه البهيمة عديمة الجدوى؛ فنظراً لعجز الجواد عن العمل رأى الشاب أنه ليس من العدل إطعامه، اشمئز من فكرة إهداره للشوفان، وهو باهظ الثمن، على هذا الكهل العاجز. وبالرغم من أوامر السيد لوكاس كان الصبي يقتصد في الطعام، فكان في كل مرة يقلل فيها من المقدار الذي يضعه للجواد الضعيف. زاد الحقد في عقله الصبياني والمضطرب، كحقد فلاح أناني ولئيم وشرس ذي قلب قاس ووضيع.

ومع حلول فصل الصيف التالي تعيّن عليه نقل الجواد إلى المرعى، لم تكن المسافة ببعيدة بين البقعتين. في كل صباح كان يزداد حقداً وسخطاً وهو يمشي بتثاقل وسط حقول القمح التي يهتف له العاملون فيها ساخرين: “اسمع زيدور! أبلغ سلامنا إلى كوكو”.

لم يكن ينبس ببنت شفة، ولكنه في كل مرة كان يكسر خيزرانة في طريقه. وبعد نقله الجواد إلى المرعى سرعان ما يشرع الآخر بالعلف، فيغدر به زيدور متسللاً خلفه، وإذ به يجرح سيقانه. كان الحيوان يحاول الفرار والركل لتجنب اللطمات التي يتلقاها حائماً حول الحبل كما لو أنه طُوّق في حلقة سيرك، في حين كان الصبي يجري خلفه ملوحاً بشراسة وهو يضرس مستشيطاً من الغضب.

وبعدها يرحل بهدوء دون أن يدير رأسه للخلف بينما يراقب الجواد خطواته حتى لا يبقى لزواله أثر. برزت أضلاعه، وكان يلهث لما بذله من مجهود غير اعتيادي، ولم يكن يحني رأسه الأبيض الهزيل نحو الكلأ حتى يتأكد من اختفاء وزرة الفلّاح الزرقاء.

وبما أن الليالي غدت دافئة الآن فأصبح بإمكان كوكو النوم في الهواء الطلق وسط الحقل خلف تلك الغابة الصغيرة. ذهب زيدور وحده ليراه، وبدأ بقذفه بالحجارة كنوع من التسلية. كان يجلس على حافة جسرٍ تبعد عن الجواد عشرة أقدام تقريباً، ويمكث هناك حوالي نصف ساعة، وبين حين لآخر يعاود قذف الجواد الكهل بحجارة حادّة، ولكن الجواد بقي واقفاً بثبات أمام عدوّه محدقاً به دون توقف ومصرًّا على ألا يضع لقمة في فمه طالما ظلّ الصبي يحوم حوله.

ظلّ هذا التساؤل يتردد في عقل ذلك الصبي الوغد: “لماذا يتعّين علي إطعام هذا الجواد وهو لم يعد مجدياً لأي شيء؟” يرى أن ما يفعله الجواد هو سلب لطعام ينتمي لغيره؛ وأنها خيرات وهبها الرب لجميع المخلوقات، حتى إن زيدور العامل في تلك المزرعة رأى أن الجواد يسلب هذه الخيرات منه هو أيضاً.

وفي كل يومٍ شيئاً فشيئاً بدأ الشاب بتقصير طول الحبل الذي كان يسمح للجواد بالوصول إلى العلف.

تحوّل الحيوان إلى هيكل عظمي من شدّة جوعه، وكان أوهن من أن يقدر على فك قيده، فكل ما كان باستطاعته هو مدُّ رأسه بجهد كبير نحو الكلأ الطويل والأخضر الذي بدا له منظره مغرياً. لقد كان قريباً كفاية ليستروحه، ولكنه عاجزاً عن الوصول إليه.

ثم في أحد الصباحات راودت زيدور فكرة، وهي التوقف عن تغيير مكان كوكو. فقد أرهقه المشي كل هذه المسافة فقط من أجل نقل هذا الكهل الهزيل. لم يأتِ ذلك اليوم سوى للاستمتاع بانتقامه، شاهدته البهيمة بقلق، ولكنه لم يؤذها هذه المرة، كل ما فعله هو الحوم حول الجواد مدخلا يديه في جيبيه. حتى إنه تظاهر بنقله بينما يغرس الركيزة في ذات الحفرة وغادر مغتبطاً لما فعله من إنجاز.

صهل الجواد له لمّا رآه مبعداً، ولكن الوغد شرع في الركض تاركه وحده تماماً في الحقل مقيداً بإحكام دون وجود أي كلأٍ في متناوله.

كان الحيوان يتضور جوعاً، فبذل جهده للوصول إلى الكلأ الذي لم يكن بوسعه سوى لمسه بطرف أنفه. جثا على الأرض مادّاً عُرفه وفمه الذي سال منه اللعاب، ولكن باءت كل محاولاته بالفشل، فقد قضى ذلك الحيوان اليوم بأكمله دون جدوى محاولاً الحصول على طعامه. جعله المنظر الأخضر من حوله يعاني أكثر من آلام الجوع القارص.  

لم يعُد الشاب الوغد في ذلك اليوم، كان يتجول في الغابة باحثاً عن أعشاش. وفي اليوم التالي عاد مجدداً إلى مسرح الجريمة. هناك حيث استلقى كوكو المستنزف، وعند رؤيته الشاب نهض، إذ إنه يتوقع منه تغيير مكانه.

ولكن الشاب لم يكلّف نفسه عناء حمل المطرقة الملقاة على الأرض حتى. اقترب أكثر وحدّق في الجواد، وإذ به ينثر كتلة من الغبرة على رأسه فتساقطت على شعره الأبيض، وبعدها عاد يدندن.

بقي الجواد واقفاً ينظر إليه حتى غادر، وبعد إيقانه أنه لا محالة من الوصول إلى الكلأ الذي بقربه، عاود الاستلقاء على جانبه وأغمض عينيه. لم يأت الشاب في اليوم التالي.

وعند قدومه أخيراً وجد كوكو ما زال ممدداً هناك، وكان جثة هامدة.

ظلّ يحدّق به مبتهجاً بانتصاره، ثم ركله ركلة خفيفة بقدمه.. رفع ساقًا من سيقانه وأفلتها ثم جلس فوق جثته، بقي هناك وعيناه مثبّتة على الكلأ في الأرض وعقله خال من الأفكار. عاد إلى المزرعة، ولكنه لم يذكر الحادثة، فقد كان قبل ذلك بحاجة إلى التجول للتعويض عن الساعات التي تعيّن عليه خلالها نقل كوكو إلى المرعى.

ما لبث حتى عاد لرؤيته في اليوم التالي، وعند اقترابه منه حلّقت بعض الغربان من فوق الجثّة، والتي كان عليها عدد لا يحصى من الذباب المطنطن. أعلن زيدور عن الحادثة عند عودته للمنزل. وبما أن الحيوان كان الأصل معمّراً فلم يصعق أيٌّ من أهل المنزل. أمرت السيدة اثنين من رجالها بحفر قبرٍ له تحت البقعة التي فارق فيها كوكو الحياة.

فدفن الرجلان بدورهما الجواد حيث مات من شدّة جوعه. ومن جديد نبت كلأً أخضراً وكثيفاً متغذيًا على جثة ذلك المخلوق البائس.


الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s