أدب رومنسي

الصبّار

  • الكاتب: أو.هنري
  • ترجمة: رزان العيسى
  • تدقيق: راشد التميمي

من أهم قواعد الوقت أنه يرجع لحدث معين. للرجل الغارق في كمّ الذكريات الهائل أن يتنازل عن معظمها بإرادته، لكن لم تكن من قواعد الماضي قط أن للمرء أن يسترجع علاقة بأكملها وهو ينزع قفازه.

هذا ما حصل مع “تريسديل” الذي كان يقف أمام الطاولة في شقته المخصصة للعزاب. وُضع على الطاولة نبتة خضراء اللون فريدة من نوعها في جرة فخارية حمراء. كانت النبتة من أحد أنواع الصبّار، وعلى قمتها أوراق خضراء طويلة تتمايل مع أبسط نسمة تمايلًا غريبًا.

كان صديق “تريسديل”، أخو العروس، يقف عند الخزانة وهو يشكو صديقه أنه تركه يشرب وحده. كلا الرجلين كانا يرتديان ملابس السهرة، وقد سطعت الهدايا التذكارية البيضاء في وسط كآبة الغرفة.

مرّ في خاطر “تريسديل” وهو يفتح أزرار القفاز ببطء، نظرة سريعة ومخيفة لأحداث الساعات الماضية للتو. يبدو أن رائحة الزهور التي وزعت للحضور في الكنيسة لا تزال عالقة في أنفه، وفي أذنه تهمس آلاف من الأصوات المهذبة، ويتناهى إليها حفيف الملابس على الأرض، أما الكلمات التي كانت تخرج ببطء من فم القس لتربطها بذلك الشخص للأبد فقد كانت تعلو كلّ الأصوات.

من وجهة نظره اليائسة والأخيرة ظلّ يجاهد، وكأنها أصبحت عادة عقله أن يبحث عن تخمينات لخسارته لها وسبب ذلك. اهتز متفاجئًا من حقيقة لا مناص منها، فها هو فجأة يواجه أمرًا لم يواجه من قبل، نفسه العميقة، غير المحبوبة، نفسه الجرداء القاحلة. رأى الآن ملابس التظاهر والأنانية تتحول إلى خِرَقٍ من الحماقة. ارتجف من فكرة أن الآخرين كانوا يظنون  أن ثياب روحه رثة ومثيرة للشفقة.  أما الخيلاء والغرور؟ هذه كانت مفاصل درعه. وكم كانت هي بعيدة عن هاتين الصفتين…لكن لماذا؟!

بينما كانت تتحرك ببطء في الممر متجهة إلى المذبح، اعتراه فرح مشفق لا يستحقه لكنه منحه الدعم، فقد أخبر نفسه أن سبب ذبولها هو تفكيرها في رجل غير الذي كانت على وشك أن تهب نفسها له. لكن حتّى عزاؤه الوحيد اُنتزع منه، وذلك عندما ارتفعت نظراتها إلى الرجل وهو يمسك يديها، كانت نظرتها سريعة وواضحة، عندها علم أنه أصبح في طي النسيان. لكن عندما رمت إليه النظرات نفسها، لمع في ذهنه المعنى الذي تحمله. انهار غروره في الواقع، وسقط آخر أمر كان يدعمه. لما انتهى بهما المطاف هكذا؟ فلم يكن بينهما شجار، لا شيء..

وللمرّة الألف استرجع أحداث الأيام القليلة الماضية قبل أن تنقلب الأحوال رأسًا على عقب.

كانت تضعه موضع التبجيل، وكان يقبل تبجيلها بتواضع ملكي.  كانت تشعل بخورًا زكي الرائحة أمامه، همس في داخله “يا له من تواضع”، “إنه فعل طفولي وعبودي”، وأقسم ذات مرّة “مخلصة للغاية”. كانت تمنحه عددًا غير نهائي من الصفات السامية، والمميزات، والمواهب، وهو بدوره يتقبّل قربانها وكأنه صحراء قاحلة تستقبل المطر الذي لا ينبت زهورًا ولا ثمارًا.

بينما كان “تريسديل” ينزع قفازه الأخير، عادت إليه حالة تتويج أنانيته السخيفة والمتأخرة. كان الوقت ليلًا عندما طلب منها أن تأتي لتبجله، وتشاركه عظمته. من شدّة الألم الذي يشعر به، لم يستطع أن يجعل عقله يركز على جمال تلك الليلة، تموجات شعرها اللامبالية، وسحر وحنان نظراتها وكلماتها، لكنهما كانا كافيينِ لجعله يتذكر ما قالته خلال محادثتهما:

“وقال لي الكابتن “كاروثيرس” إنك تتحدث الإسبانية بطلاقة. لمَ أخفيت هذا الإنجاز عني؟ أهناك أمر يا ترى لا تتقنه!”

“كاروثيرس” يا له من أحمق! لا شك أن “تريسديل” اقترف خطأ، فهو في بعض الأحيان يقوم بأمور مثل أن يلقي  في الملهى كلمات إسبانية قديمة من مجموعة الكلمات المكتوبة في خلف القاموس. لكن “كاروثيرس” الذي كان معجبًا به قد ضخم سعة اطلاعه المشكوك بها.

لكن للأسف كان بخور إعجابها حلوًا وممتعًا جدًا. فجعل الإطراء يمرّ دون أن ينكره. وسمح لها دون أي احتجاج منه أن تلف خيوط المجد حول رأسه الذي خاض العلوم الإسبانية. وجعل من ذلك انتصارًا يرفع به رأسه، ومن بين تلافيفها الناعمة، لم يشعر بوخز الشوكة التي ستؤلمه فيما بعد.

كم كانت سعيدة، وخجولة، ومرتعشة! كانت ترفرف كعصفور صغير عندما جثا على ركبتيه بكامل قوته أمام قدميها! لم يقسم من قبل، لكنه يمكن أن يقسم الآن، أن الموافقة كانت واضحة في عينيها، ولكن من شدّة الخجل لم تستطع أن تعطيه الإجابة مباشرة “سأرسل لك إجابتي غـ..غدًا”. وهو المنتصر المتساهل الواثق، وافق على التأخير بابتسامة. وفي اليوم التالي انتظر بفارغ الصبر الإجابة في شقته. وفي المساء، جاء عريسها إلى بابه وترك عنده نبتة صبار غريبة في إناء فخاري أحمر. لم يكن هناك ملاحظة، أو رسالة، فقط بطاقة على النبتة تحمل اسمًا بربريًا أجنبيًا، أو نباتيًا. فانتظر حتّى الليل، لكن إجابتها لم تصل إليه. منعه كبرياؤه وغروره المجروح من البحث عنها. وبعد يومين، التقيا على عشاء. كانت تحياتهما تقليدية، لكنها نظرت إليه نظرة لاهثة، ومتسائلة، ومتلهفة. بكلّ تهذيب وعناد انتظر هو تفسيرها. وبذكائها الأنثوي لمحت من أسلوبه الأمر فتحولت إلى جليد. وبذلك افترقا، أكثر وأكثر. ما خطؤه؟ على من يقع اللوم؟ والآن يبحث عن الإجابة وسط أنقاض غروره بكلّ تواضع….ماذا لو..

أغضبه صوت الرجل الآخر في الغرفة، وهو يتطفل على أفكاره.

“أقول لك “تريسديل” ما خطبك؟ تبدو حزينًا كما لو أنك أنت من تزوجت، بدلًا من أن تتصرف وكأنك تواطأت في الجريمة.  انظر إلي، فقد جئت من ألفي ميل على باخرة تحمل ثومًا وصراصيرَ وموزًا من جنوب إفريقيا لأتواطأ في هذه التضحية، ولا زلت أعتبرها أمرًا ثانويًا، وأرجوك أن تلاحظ أنني لا أشعر بالذنب. رغم أنها أختي الصغيرة الوحيدة، والآن رحلت. هيّا، اشرب شيئًا يهدئ من روعك.”

ردّ “تريسديل”: “لا أشرب في هذا الوقت فقط، شكرًا لك.”

أكمل حديثه وهو يقف لينضم إليه، قائلًا: “طريقة شُربك”، ثمّ أردف “بغيضة. تعال في وقتٍ ما إلى “بونتا رينودا”، سترى الكثيرَ من الأشياء التي يُهربها “غراسيا” العجوز هناك في البلد الإسباني، وصدقني أنها تستحق عناءَ الرحلة. يا إلهي! إنه أحدُ معارفي القدامى، من أين حصلت على هذا الصبار يا “تريسديل”؟”

قال “تريسديل”: هدية من صديق، هل تعرف هذا النوع؟”

“أعرفه جيدًا، إنه نوع استوائي. أرى المئات مثلها كلّ يوم في “بونتا”. ها هو الاسم كُتب على البطاقة. هل تعرف أي من أساسيات اللغة الإسبانية “تريسديل”؟

ردّ “تريسديل” بابتسامة مريرة: “لا، كُتبت بالإسبانية؟”

“نعم، يتخيل سكان إسبانيا الأصليون أن هذه الأوراق تصل إلك وتميل لك. ويدعونها Ventomarme، ما يعني بالإنجليزية “تعال وخذني”.”


الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s