تأملات

على النهر

  • الكاتب: غي دو موباسان
  • ترجمة: أمل المانع
  • تدقيق: راشد التميمي

استأجرت منزلاً ريفياً صغيراً في الصيف الماضي يقع على ضفاف نهر السين، ويبعد عن مدينة باريس بضع فراسخ. قصدت ذلك المكان لغرض الاستجمام، وبعد بضعة أيامٍ تعرّفتُ على أحدهم في الجوار، إنه رجلٌ في حدود الثلاثين أو الأربعين من عمره، ولا شك بأنه كان من أكثر الأشخاص الذين قابلتهم فضولاً. كان العجوزُ مولّعاً بالقوارب، وكما هو الحال دوماً إما أن تصادفه على الضفة النهر أو تراه يجدف بقاربه أو يسبح في الماء، وكأنه وُلِد في قارب، وحتماً سيموت في آخر.

وفي إحدى الأمسيات بينما كُنّا نسير على ضفاف النهر طلبتُ منه أن يرويَ لي بعضاً من القصص التي شهدها في النهر. وفجأة غمر الحماس الرجل اللطيف وتبدّلت تعابير وجهه ثم انطلق لسانه متحدثاً بشاعرية، شغفه الكبير تجاه النهر كان كل ما يغمر قلبه، شغفاً شيّقاً لا يمكنه مقاومته.

قال لي: آه، يا لها من ذكريات كثيرة عشتها في هذا النهر الذي ترينه بجانبنا! إنكم أصحاب المدن تجهلون عن النهر الكثير؛ فالأمر مختلفاً عندما يتحدث صيّاد السمك عن النهر، فهو بالنسبة له يعني الغموض والعمق والمجهول، ويعني أرضاً يغطيها السراب والأوهام حيث يرى بها المرء أموراً لا وجود لها، ويسمع أصواتاً لا يمكن تمييزها في غياهب الظلمة فيرتعد دون أدنى سبب، الأمر أشبه بعبورك بجانب مقبرة، ولكنها ليست كأي مقبرة، بل أكثر المقابر شؤماً كتلك التي لا يوجد بها أجداثٌ.

أما بالنسبة إلى القواربيّ يبدو النهر وما يُحاط به محدوداً إلى أن تأتي إحدى تلك الليالي الدامسة التي يختبئ خلف سوادها القمر، فحينها يتيه الرجل ويبدو النهر في عينيه كالسراب. لا يكنُّ البحّار للبحر ذات الشعور؛ عكس النهر فهو في الغالب يميل إلى الوحشية والقسوة، هذه هي الحقيقة، ولكن ذلك البحر الشاسع صاخبٌ وهدّارٌ وصادق على الأقل، بينما يغدرُ بنا النهر بصمتٍ، إنه يجري بصمت، يرعبني هذا التيار الأبدي أكثر من أمواج المحيط العاتية.

يقول الحالمون إن البحر بمساحاته الشاسعة يخبئ في رحمه الأزرق جثثاً غارقة تتجول به الأسماك الكبيرة وسط الغابات العجيبة والكهوف البلورية. وكل ما يخبئه النهر هي أعماقٌ كحلاء من الوحل تتعفّن بها الجثث، ولكنه يبدو جميلاً عندما تبرقُ مياهه مع شروق الشمس وترتطم بهدوء في ضفافه المطرّزة بخيزران القصب المتمتم.          

يصف الشاعر المحيط بهذه الكلمات:

أيتها الأمواج، كم من مأساةٍ مفجعة شهدتِ

أيتها الأمواج المظلمة، كحرقة قلوب الأمهات الثكالى

من بين مدك وجزرك تهمسين

فيجلب ذلك همًا ويأسًا للسامعين

أعتقد أن القصص التي همس بها خيزران القصب بأصواته الخافتة والهادئة أكثر شؤمًا من المآسي الحزينة التي صرخَت بها أمواج المحيط المتلاطمة.  

ولكن بما أنكِ طلبتِ مني أن أروي لك بعضاً من مغامراتي، إذاً سأخبرك بحادثة مضى عليها عشرة أعوام.

كنت أقطن حينها كما هو الحال الآن في منزل الأم لافون. وأحد أصدقائي المقربين الذي تخلى عن هواية ركوب القوارب وذهب مرتدياً حذاءه المنخفض وعنقه المجرّد للعمل في المحكمة العليا، كان يقطن في بلدة سي في أسفل النهر والتي تبعد فرسخين. اعتدنا تناول العشاء معاً كل يوم في منزله وأحياناً أخرى في منزلي.

وفي إحدى الأمسيات كنت أُجدّف بإنهاك شديد على قاربي الكبير -ذي الاثني عشر قدماً- عائداً إلى المنزل، والذي لطالما كنت أخرجُ به ليلاً وأتوقف للحظات بالقرب من البقعة المكسوّة بخيزران القصب تلك لأخذ قسط من الراحة، وهي تبعد عن جسر سكة الحديدة حوالي مئتي متر.

كانت ليلة خلّابة وهادئة، فضلاً عن توهّج القمر بها بضوئه المنعكس على سطح ذلك النهر المتلألئ ونسمات الهواء العليل، افتتنت بهذه السكينة، فقلت في نفسي ِلمَ لا أدخّنُ غليوني في وهج حالة السلام هذه؟! فقررت إخراجه والتدخين في المكان، حملتُ المرساة وألقيتها في النهر لتثبيت القارب.

طفا القارب مع التيار نحو المجرى حتى نهاية السلسلة ثم توقّف، جلستُ في مؤخرة القارب على فراء الأغنام محاولاً الحصول على أكبر قدر من الراحة. لم أسمع سوى ذلك الصوت الخافت جداً الذي أتصور سماعه في رأسي في بعض الأحيان، إنه ارتطام الماء في ضفة النهر على ما يبدو. كما لفتت انتباهي مجموعة طويلة من خيزران القصب آخذةً تتشكل بأشكال غامضة، بدت وكأنها تتحرك في أحيانٍ أخرى.

كان النهر يعمُّهُ السكون، فوجدتني مُرتاباً من هذا الصمت المدقع الذي يحيط بي. لم تنبس جميع المخلوقات ببنت شفة، وحتى الضفادع التي اعتادت الخروج ليلاً لتنقنق في المستنقع.

فجأة وعلى مقربة مني نقنق ضفدعٌ على يميني فارتعدتُ، صمت ولم أسمع بعده أي صوت. عدتُ أكمل غليوني لإراحة بالي، بالرغم من شهرتي بصبغ الغلايين إلا أنني لم أكن مدخناً جيداً لها. أصابني الغثيان بعد السحبة الثانية مما دفعني بعدها إلى التوقف عن المحاولة. بدأتُ أرنّم وأغني، ولكن بدا لي صوتي مأساوياً، فاستلقيت وبقيت ساكناً، ولكن بددت سكينتي حركة القارب الخفيفة، بدا لي وكأنه يترنّح بقوة متناوباً من ضفة إلى أخرى. بعدها شعرتُ وكأن هناك مخلوقاً أو قوة غير مرئية تنتشل قاربي من سطح الماء ثم تهوي به مجدداً، كُدتُ أن أسقط في الماء من شدتها وكأنها إعصار شديد وقع حينها، سمعت ضجيجاً حولي فقفزت قفزة عالية من الفزع. وبدا بعدها ماء النهر برّاقاً وكل شيء هادئ.    

قررت مغادرة المكان عندما بدأت تتلف أعصابي، فسحبتُ السلسلة لرفع المرساة، بدأ القارب بالترنّح وشعرتُ بمقاومة فشددتُ السلسلة بقوة أكبر، ولكن المرساة لم تخرج، لقد علقت بشيءٍ ما في أسفل النهر لم أستطع إخراجه.    

بدأتُ أشدُ مجدداً، ولكن دون جدوى، وبمجدافي أدرت مقدمة القارب لتصبح معاكسة للتيار لتحريك المرساة، ومرة أخرى تكلل الأمرُ بالفشل، فما زالت عالقة، أصابتني ثورة غضب عارمة وهززت السلسلة بانفعال شديد.

ولكن المرساة لم تتزحزح، جلست يائساً أتأملُ حالي. لم أفكر حتى بكسر السلسلة أو فصلها عن القارب لضخامتها، كما أنها مثبّتة بإحكام في مقدمة القارب على قطعة خشب سميكةً كسماكة ذراعي.    

وبما أن الطقس كان جيداً ظننت أنني لن أمكث طويلاً دون مساعدة أحد صيادي السمك، ولكن لسوء حظي لم يأتِ أحدٌ ليمد لي يد العون، فجلست أكمل تدخين غليوني الذي الآن أصبحت قادراً على تدخينه لمدة طويلة، ثم تناولت كأسين أو ثلاثة من زجاجة الشراب التي جلبتها معي ساخراً من حالي. كان الهواء دافئاً لدرجة أنه يمكنني أن أغفو هنا تحت النجوم المشعّة دون التعرض إلى أي أذى.

أفزعتني قرعة خفيفة مفاجئة على جانب قاربي. تجمّد جسدي المتعرّق بشدة من الخوف، تيقّنت بعدها أن مصدر القرعة كان قطعة خشب تطفو على سطح الماء مع التيار. ما حدث كان كافياً لإثارة أعصابي مجددًا وجعلي فريسة لنوبات الانفعال الغريبة. أمسكت بالسلسلة وشددت عضلاتي جاهداً بيأس، ولكن المرساة لم تتزحزح إطلاقاً. عُدت للجلوس من الإنهاك.

وتدريجياً أحاط ضبابٌ شديدٌ النهر من كل جهة ثم تربّع على سطحه، مما جعلني لا أرى النهر ولا القارب ولا حتى قدمَيَّ عند وقوفي. قمم خيزران القصب هي كل ما يمكنني تمييزه بجانب ضوء القمر الأبيض بعيداً يتجلّى بين ظلال سوداء كبيرة وشاهقة تشكّلها مجموعة من أشجار الحور الإيطالية.      

بدوت كما لو أنني مدفوناً حتى خاصرتي بسحابة قطنية ناصعة البياض. خطرت في بالي جُل ألوان الخيال العجيبة.  

فتخيلت أن أحدهم يحاول تسلّق قاربي ولا يمكنني رؤيته بسبب الضباب، أو أن النهر المغمور بالضباب الكثيف مليءٌ بمخلوقات غريبة تحوم حولي.

لم أعد أشعر بالراحة إطلاقاً. الأمر أشبه بعصبة مشدودة على رأسي، كانت ضربات قلبي سريعة لدرجة أنني كدت أن أختنق بأنفاسي. كما أنه خطر على بالي أن أسبح مبتعداً عن هذا المكان، ولكن مجدداً ارتعد جسدي من هذه الفكرة. وجدتني تائهاً بأفكاري حيث أضع تصورات قد تحدث لي في هذا الضباب الكثيف، كمعاناتي وسط هذه الحشائش ومجموعة خيزران القصب التي لم أستطع التخلص منها. كانت تتراكض أنفاسي من شدّة الخوف، فلم أكن قادراً على رؤية الضفة ولا حتى قاربي، وأشعر كأنني سأُجرُ من قدميّ إلى قاع هذه المياه الكحلاء.  

في الواقع، كنت معرضاً للتيه والغرق في خضم هذا الضباب حتى وإن كنت أجيدُ السباحة. لقد كان يجدر بي صعود التيار قبل إيجادي لبقعة خالية من الأعشاب والقصب أرسو فيها على بعد خمس مئة متر على الأقل.

حاولت التعقّل، ودفعتني إرادتي إلى أن أتشجّع، ولكن كان يوجد جانبٌ آخر في داخلي ظلّ خائفًا. سألتُ نفسي ما الذي يدعو إلى الخوف هنا؟ سخرَ جانبي الشجاع من جانبي الجبان، شخصيتان متنافستان لم ألحظ سابقاً وجودهما بداخلي حتى ذلك اليوم، ترغب إحداهن في القيام بأمرٍ وتقاومها الأخرى، وكلتا الشخصيتين تنتصر على الأخرى خلال اليوم بالتناوب.    

ازداد ذلك الخوف التافه والمبهم حتى صار هلعاً. بقيت ساكناً وعيناي تحدّقُ في المدى وأُذناي متيقظتان تشغلها التوقعات، ولكن ما الذي كانت تتوقع عيناي رؤيته أو أذناي سماعه؟ لا أعلم، ولكنها حتمًا كانت تتوقع وقوعَ أمرٍ رهيب. أعتقد أن وقوع أي أمرٍ كخروج سمكة من الماء قافزة أمامي -وهو ما يحدث عادةً- سيكون كفيلاً بسقوطي متيبسًا وفاقداً لوعيي.

 ولكن نجحتُ تقريباً في العودة إلى تحكيم عقلي بعد بذل جهد كبير. حملت زجاجة الشراب وارتشفت منها عدة رشفات، ثم خطرت على بالي فكرة. شرعتُ في الصياح بأعلى صوتي تباعاً في كل اتجاه حتى شُلّت حنجرتي ثم بدأتُ أستمع بتمعّن، فإذا به كان نباح كلب يصدرُ من مسافة بعيدة.

نهلتُ المزيد من الشراب وتمددتُ على سطح القارب. بقيت على ذلك الحال قرابة ساعة، وعيناي متيقّظتان يجافيها النوم، فهي ترى كوابيساً قد تحدثُ لي. ترددت في النهوض، ولكن في الوقت ذاته تملّكتني رغبة شديدة لفعل ذلك، كنتُ أماطل في كل لحظة أقرر فيها النهوض إلى أن قلت لنفسي وخوف يعتريني من التحرّك: انهض بحقك!

وأخيراً تشجّعت ونهضت بحذر شديد، كما لو أن حياتي تعتمد على نهوضي دون أن أصدر أدنى صوت، ثم نظرتُ إلى حافة القارب. لقد سحرني ذلك المشهد، إنه أروع وأدهش ما قد يراه المرء، كان كأحد الأمور الخارقة التي يشهدها الناس في عَبقَر، أمورًا لا نؤمن بها يصفها الرحّالون لنا عند عودتهم من بلدان بعيدة.      

وتدريجياً تفرّق الضباب العائم على النهر لساعتين، وتربّع على الضفاف تاركًا النهر يستعيد صفاءه. حيث شكّل على الضفاف جداراً متواصلاً يبلغ طوله ستة أو سبعة أمتار، بدى الضباب مُشِّعاً تحت ضوء القمر بطلّته الساطعة الشبيهة بالثلج. لا يرى المرءُ سوى سطح النهر برّاقاً مُغطى بنور القمر ويعانقه جبلان أبيضان والبدرُ الضخم الذي يبحرُ في سمائه المزرقّة فوقي.    

استيقظت جميع المخلوقات في الماء، وأخذت الضفادع تنقّ بحدّة، وفي كل لحظة كنت أسمعها بها تارة عن يميني وتارة أخرى عن يساري، كانت نقنقة تلك الضفادع الكبيرة الرنّانة حادّة ورتيبة وحزينة. من المضحك أن أقول لكِ إنني لم أعد خائفاً حينها، لقد كنتُ مغموراً بمشهد استثنائي جعلني لا أنبهر بأيٍ من أجَلّ الأمور روعة.  

لا أعلم كم استغرق الأمر، فقد انتهى بي المطاف نائماً. استيقظت وإذا بالقمرِ قد اختبأ والسماء ازدحمت بالغيوم. كانت مياه النهر ترتطم بلطف والرياح شديدة والظلام دامس. أنهيت ما تبقى من الشراب ثم أخذت أستمع مرتعداً إلى خشخشة خيزران القصب وصوت النهر المشؤوم، حاولت النظر، ولكنني لم أستطع تمييز قاربي ولا حتى يدَيّ اللتينِ أدنوتهما من عينَيّ لرؤيتهما.      

بدأ السواد الحالك يتلاشى رويدًا رويدًا. بدا لي أن ظلاً يعبرُ بهدوء بالقرب مني، فناديتُ، وأجابني، لقد كان صياداً. ندهته واقترب مني، ثم أخبرتهُ عن حظي السيئ، فحاذى قاربه بقاربي وجذبنا معًا سلسلة المرساة، لكن المرساة لم تتزحزح. حلَّ الصباح، لقد كان يوماً كئيباً وقاتماً وممطراً، والجو قارساً كالأيام المشؤومة التي تجلبُ للمرء الكآبة. رأيت قارباً آخرَ، لوّحنا لصاحبه وشرعَ في مساعدتنا. وتدريجياً بدأت المرساة بالرضوخ، وصعدت ببطء شديد محمّلة بوزنٍ ثقيل، وبعد مدة زمنية ظهرت لنا كتلة سوداء، حملناها ووضعناها على متن القارب. وإذ بها كانت جثة سيدة مُسنّة مثبّتٌ على عنقها حجر ضخم.


الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s