
- الكاتب: أنطون تشيخوف
- ترجمة: هناء القحطاني
- تدقيق: راشد التميمي
زوّج أستاذ الخط سيرجي كابيتونيتش أخينييف ابنته نتاليا إلى إيفان بيتروفيتش لوشادينك أستاذ التاريخ والجغرافيا. أُقيم حفل الزواج بسلاسة حيث غنى الجميع ورقصوا في سرور في قاعة الاحتفال، فيما تنقَّل النُدُل كالمجانين هُنا وهناك بمعاطف سوداء وربطات عنق بيضاء متسخة، وغطت الأصوات العالية المكان. تجمهر عدد من الناس خارج القاعة يسترقون النظر عبر النوافذ حيث لم تسمح لهم مكانتهم الاجتماعية أن يكونوا من ضمن المدعوين.
شق المستضيف أخينييف طريقه إلى المطبخ عند منتصف الليل ليتابع الوضع ويتأكد من جاهزية كل شيء. ملأ بخار الطعام المطبخ من أرضيته حتى سقفه، ممزوجاً برائحة الوز والبط وأصناف أخرى من الطعام الفاخر. صُفت الأطعمة والمشروبات عشوائياً على طاولتين، فيما كانت الطباخة مارفا ذات الجسد الممتلئ والوجه الأحمر مشغولة بالقرب من الطاولات المكتظة.
قال أخينييف وهو يفرك يديه ويلعق شفتيه : “هلا أريتني بعضاً من سمك الحفش؟ يا لها من رائحة زكية، فتحت شهيتي لدرجة أنني قد ألتهم المطبخ بأكمله! حسنًا، الآن أريني سمك الحفش”.
اتجهت مارفا إلى المنضدة ورفعت برفق جريدة مليئة بالدسم كاشفة عن طبق كبير يحتوي على سمكة عملاقة محاطة بنبات القبار والزيتون والجزر. حملق أخينييف في الطبق وتنفس الصعداء بينما توهج وجهه، وتقلبت عيناه سعادة، ثم انحنى لاعقا شفتيه ومصدراً صوتا أشبه بصرير العجلات. توقف هنيهة ثم عض أصبعه مستمتعا، وعاود لعق شفتيه بعنف مرة أخرى.
سُمع صوتٌ من الغرفة المجاورة يصرخ قائلاً: “ماذا!؟ صوت قُبلات حميمية… من تقبلين هُنا مارفوشا؟” وسُرعان ما ظهر رأس فانكين مساعد مدير المدرسة من باب المطبخ.
-“قولي لي من كُنت تقبلين هنا؟ أها … رائع جداً. سيرجي كابيتونيتش أخينييف! عجوز يجيد التعامل مع الجنس اللطيف بالتأكيد.”
قال أخينييف مرتبكًا: “لم أكن أقبِّلها على الإطلاق! من أخبرك بهذا أيها الأحمق؟ كنت فقط ألعق شفتي تعبيرًا عن إعجابي بمنظر السمكة الشهي.”
– “قل هذا لغيري!” ثم ملأت وجهه ابتسامة عريضة بينما كان يخرج من باب المطبخ.
احمَّر وجه أخينييف خجلاً. وفكر: “وحده الله يعلم ما عواقب هذا الأمر. سيبدأ ذلك الوغد بنقل الخبر الآن، وتشويه سمعتي أمام البلدة بأكملها. يا له من وحش!”
دخل أخينييف صالة الاستقبال متواريًا خجلاً، ثم ألقى نظرة خاطفة على المكان ليرى ما كان يفعله فانكين. كان فانكين واقفًا بجانب البيانو، و انحنى بخفة وهمس بشيء في أذن شقيقة زوجة المراقب التي انفجرت ضاحكة.
– “إنهما يتحدثان عني بالتأكيد! يتحدث عني… لقد أغواه الشيطان.. إنها تضحك! لابد أنها صدقته.. يا إلهي! كلا، لا يمكن أن أترك الأمر هكذا. يجب أن أصلحه وأتأكد من ألا يصدقه أحد. سأتحدث معهم جميعاً وسيظهر بمظهر المُغتاب الغبي في نهاية المطاف”.
حك أخينييف رأسه مرتبكًا وسار باتجاه باديكوي.
ثم قال للرجل الفرنسي: “كُنت في المطبخ منذ قليل أرتب تجهيزات العشاء، السمك وبقية الأطباق، ثم رأيت سمكة حفش كبيرة. بطول مترين تقريبًا. ها ها ها.. بالمناسبة، كنت سأنسى، ثمة حكاية طريفة تتعلق بسمك الحفش حدثت في المطبخ. كما أسلفت كُنت في المطبخ قبل فترة وجيزة بغية تفحص الطعام، وبينما كنت أحملق في سمك الحفش مستمتعًا، لعقت شفتي مصدرًا صوتاً قوياً، وتماما في تلك اللحظة، دخل المغفل فانكين المطبخ -هاهاها- وقال: “ماذا؟ أها… أتتبادلان القُبل هنا؟” مع مارشا! فكر معي لحظة، مع الطباخة! يا له من هراء، المرأة بشعة كالقرود، ومع ذلك يقول كنا نتبادل القُبل! يا له من مُريب”.
صاح تارانتولوف: “مَنِ هو المُريب”؟ بينما كان يقترب منهما.
– “أقصد فانكين، فقد ذهبت إلى المطبخ…” وأعاد قصة مارفا وسمك الحفش مرة أخرى.
“كم يُضحكني هذا الأمر. يا له من شخص مُريب. كما تعلم فإنني أفضل تقبيل كلب على أن أُقبّل مارفا”، ثم استدار ولاحظ مازدا، وقال له: “كُنا نتحدث عن فانكين، يا له من زميل مُريب، فقد دخل المطبخ وشاهدني واقفا بالقرب من مارفا، وبدأ باختلاق الأقاويل من حينها. تخيل أنه يقول كُنا نتبادل القُبل! كان مخموراً جداً، لذلك لا بد أنه كان يهذي. ثم قلت … قلت إنني أفضل تقبيل بطة على تقبيل مارفا، وذكرته بأنني متزوج. لقد أظهرني بمظهر التافه”.
استفسر أستاذ الدين من أخينييف: “من الذي أظهرك بمظهر التافه؟”
– “فانكين. لقد كنت واقفاً في المطبخ، أنظر إلى سمك الحفش…” وهلم جرا. ففي حوالي نصف ساعة فقط علم الضيوف جميعهم قصة فانكين وسمك الحفش.
قال أخينييف وهو يفرك يديه دهاءً: “ليحاول إخبارهم الآن! ليفعلها، سيحاول إخبارهم ثم سيقاطعونه جميعاً في أسرع وقت قائلين: توقف عن قول الهراء أيها الأحمق، فنحن نعرف ماذا جرى!
شعر أخينييف بالرضا ثم شرب أربع كؤوس من مشروب البراندي للمتعة.
وبعد مرافقة ابنته إلى غرفتها خلا بنفسه ونام نومًا هانئاً كنوم الأطفال. وفي اليوم التالي، نسي تمامًا قصة سمك الحفش.
لكن يا للأسف، فالعبد في التفكير والرب في التدبير، حيث قامت الألسن الشيطانية بعملها على أكمل وجه، فحتى دهاء أخينييف لم يستطع ردعها. وبعد أسبوع وتحديدًا في يوم الأربعاء بعد الحصة الثالثة عندما كان أخينييف جالسًا في غرفة المعلمين يناقش بعض الأمور، اقترب منه المدير واستدعاه على انفراد، ثم قال: “حسنًا اعذرني على التطفل، ولكن يجب عليَّ أن أوضح لك بعض الأمور، فهذا واجبي. كما ترى فالشائعات حول علاقتك الحميمية مع تلك المرأة… طباختك… ليس لي علاقة بالأمر فمن حقك أن تكون على علاقة معها، وأن تفعل ما تشاء ولكن أرجوك لا تفعلها علانية. أتوسل إليك، لا تنسَ أنك مُربي أجيال”.
تجمد أخينييف في مكانه، ثم عاد إلى منزله مذهولاً كأنما لُدغ من سرب من النحل أو أُحرق بماء مغلي. وفي طريق عودته خُيِل له كأن المدينة بأكملها تُحدق به.
أما في المنزل فقد كانت هناك مشاكل جديدة بانتظاره، سألته زوجته بينما كانا على وجبة العشاء: “لماذا لا تأكل؟ ما الذي تفكر به؟ هل تُفكر بالحب؟ ها؟ تحن لمارفوشكا. إنني على علمٍ بكل شيء يا زير النساء، فقد فتح أُناسٌ طيبون عيني على فظاعاتك أيها الهمجي!” وصفعته بقوة.
نهض من الطاولة مفجوعاً وخرج دون أن يرتدي قبعته أو جاكيته حيث قادته خُطاه إلى منزل فانكين. وقد كان الأخير في منزله.
– “أيها الوغد! لماذا لطخت سمعتي أمام العالم أجمع؟ لماذا اغتبتني؟”
– “كيف؟ عن أي غيبة تتحدث؟ من أين أتيت بهذا الكلام؟
– “إذن من أخبر الجميع أنني كُنت أُقبل مارفا؟ ألست من أخبرهم؟ أيها المجرم؟”
أغمض فانكين عينيه بسرعة وبدأ وجهه بالارتجاف ثم رفع عينيه نحو صورة معلقة أمامه وصاح: “ليعاقبني الله ويفقدني نظري ويأخذني إليه إذا كُنت قد قلت كلمة واحدة عنك لأي أحد! ليحرمني الله منزلي ووطني لو كنت فعلت ذلك”.
كان فانكين صادقًا بدون شك فلقد كان دعاؤه دليلاً على أنه بريء من هذه الإشاعات.
– “لكن من فعل ذلك؟ من؟” سأل أخينييف نفسه بينما كان يستذكر كل معارفه ويضرب صدره.
“من فعل ذلك؟”.