
- الكاتب: أنطون تشيخوف
- ترجمة: رزان العيسى
- تدقيق: أبي أسامة التميمي
في الليل هزت الممرضة فاركا ابنة الثلاثين عامًا مهدًا تمدد فيه الرضيع وهي ترنم له بصوت منخفض:
“يلا تنام يلا تنام، وأذبح لك جوز الحمام”
اشتعل القنديل الأخضر أمام الصورة، وامتد حبل من بداية الغرفة إلى نهايتها وقد عُلّق عليه ملابس الطفل وزوجين من بنطال أسود. انعكست صورة القنديل على السقف فبدت عليه بقعة خضراء، ورمت ملابس الطفل والبناطيل ظلالها على الموقد والمهد وفاركا. عندما بدأ ضوء القنديل يتذبذب، بُثَّت الحياة في البقعة الخضراء والظلال فأصبحوا يتحركون وكأن الحركة بفعل الريح. الجو خانق؛ فرائحة حساء الملفوف ومحلات الأحذية منتشرة في المكان ودندنت:
“يلا تنام يلا تنام، وأذبح لك جوز الحمام”
الطفل يبكي منذ مدة طويلة حتى إن صوته أجَشُّ من البكاء وتعب منه لكنه ما زال مستمرًّا فيه ولا أحد يعلم متى سيكفّ عن ذلك. أما فاركا التي تشعر بالنعاس فعيناها تُغمضان رغمًا عنها ورأسها يتدلى ورقبتها تؤلمها، لا تقوى على تحريك جفنيها أو شفتيها وتشعر بأن وجهها جافٌّ ومتخشّب وأن رأسها أصبح ثقيلًا كاليقطين.
ينعق صرصار الليل على الموقد ويرقد كلٌّ من السيد وتلميذه أفانسي في الغرفة المجاورة، يُحدث المهد صريرًا محزنًا، وفاركا تدندن. امتزجت كل تلك الأصوات لتشكل موسيقى عذبة في الليل التي يحلو للمرء أن يسمعها وهو مضطجع على فراشه. لكن باتت هذه الموسيقى الآن مزعجة ومرهقة لأنها تدعوها للنوم ويجب ألا تنام. فلو فاركا نامت -لا قدَّر الله!- فسوف يعاقبها سيداها، غنّت: “يلا تنام يلا تنام، وأذبح لك جوز الحمام”، والآن رأت نفسها في الكوخ المظلم والخانق.
المصباح يتذبذب وظلال البقعة الخضراء تتحرك وتسقط نفسها على عيني فاركا نصف المفتوحتين، وعقلها نصف الواعي يخالها صورًا ضبابية. ترى غيومًا سوداء تطارد بعضها في السماء وتصرخ كالطفل. لكن بعد ذلك هبّت الريح فذهبت السحب ورأت فاركا طريقًا واسعًا مغطّى بطين سائل وعلى جانبي الطريق امتدت صفوف من العربات بينما كان الناس يمشون بإجهاد على الطريق وعلى ظهورهم حقائب سفر وظلالهم تتمايل إلى الأمام والخلف، رأت على جانبي الطريق غابات من خلال الضباب الشديد والبارد. في اللحظة ذاتها سقط الناس بحقائبهم وظلالهم على الأرض المغطاة بالطين. سألتهم فاركا: لماذا سقطتم؟ أجابوها: لننام لننام!!
وقفت الغربان وطيور العقعق على أسلاك التليجراف أخذة بالصراخ كالطفل في محاولة لإيقاظهم.
يتقلب والدها المتوفّى السيد يفيم ستيبانوف على الأرض، لم تره بل سمعت أنينه وتقلُّبه على الأرض من شدّة الألم. كان يقول إن أحشاءه انفجرت، فالألم مميت لدرجة أنه لا يستطيع أن يهمس بكلمة؛ فهو فقط يستطيع أن يتنفس وأن يصرّ على أسنانه لتصدر صوتاً كقعقعة الطبل “بوو، بوو، بوو، بوو…”
ذهبت أمها إلى منزل السيد لتخبره بأن يفيم يحتضر. ذهبت منذ فترة طويلة ويجب عليها أن تعود، بقيت فاركا مستيقظة بجانب الموقد وهي تستمع لأنين والدها: بوو، بوو، بوو، بوو. ثم سمعت قدوم شخص ما إلى الكوخ، كان طبيبًا شابًّا من المدينة يقضي إجازته في المنزل الكبير فجلبوه ليسعف المريض. دخل الطبيب لكن لم يتمكن من رؤية المريض في غياهب الكوخ لكنه استطاع سماع سعاله وصوت صرير الباب.
قال: أوقدوا شمعة
أجاب يفيم: بوو، بوو، بوو…
هرعت بيليجيا إلى الموقد وبدأت تبحث عن أصيص مكسور بداخله أعواد ثقاب، مرت دقيقة صمت. لمس الطبيب جيبه ثم أشعل عود ثقاب.
قالت بيلاجيا: دقيقة يا سيدي دقيقة، ثم ركضت إلى خارج الكوخ وبعد مدة عادت بشمعة صغيرة.
كانت وجنتا يفيم متوردتين وعيناه تتلألآن وفي نظرته فطنة غريبة وكأنه يعرف ما يجري بداخل الكوخ وما في بال الطبيب.
مال الطبيب بجسده عليه وقال: قل لي ماذا؟ ما الذي يجول في خاطرك؟ أهها! وصلت لهذه المرحلة.
-ماذا؟ حضرتك، سأقضي نحبي، فساعتي حانت… لن يطول مكوثي بين الأحياء.
-لا تكن مجنونًا! سنعالجك.
-هذا ما تتمناه حضرة الطبيب، نحن نشكرك ما حيينا، لكننا فقط نفهم بأن ساعة الموت قد آن أوانها.
قضى الطبيب ربع الساعة وهو مائل على يفيم، بعدها استقام فقال: لم يعد بيدي شيء، يجب أن تذهب للمستشفى، هناك سيجرون لك عملية، اذهب الآن يجب أن تذهب! الوقت قد فات، فالأطباء نائمون في المستشفى، لكن لا يهمّ ذلك! سأعطيك ملاحظة، هل تسمعني؟
قالت بيليجيا: يا لك من سيد طيب لكن كيف له أن يذهب؟ لا نملك أحصنة.
-لا تقلقي سأطلب من سيدك وسيعطيك حصانًا.
غادر الطبيب وانطفأت الشمعة وعاد الصوت مرة أخرى “بوو، بوو، بوو” بعد نصف ساعة وصل شخص ما إلى الكوخ، أُرسلت العربة لتأخذ يفيم إلى المستشفى، فأستعدَّ وذهب.
حلَّ الصباح المشرق ولم تكن بيليجيا في المنزل، فقد ذهبت إلى المستشفى لترى ماذا حلَّ بيفيم. يوجد في مكان ما طفل يبكي، وسمعت فاركا شخصًا يغنّي بصوتها:
“يلا تنام يلا تنام، وأذبح لك جوز الحمام”
عادت بيليجيا، ضمّت نفسها وهي تهمس:
أخذوه للعلاج في الليل، لكنه عند الصباح أسلم روحه للربّ… فلتسكن روحه الجنة ولينزل السلام الأبدي عليه… قالوا بأنه جاءهم متأخّرًا جدًّا… كان يجب أن يذهب إليهم حالًا…
خرجت فاركا على قارعة الطريق وبكت هناك، ولكن فجأة ضربها شخص ما على مؤخرة رأسها بقوة حتى اصطدمت جبهتها بشجرة البتولة، رفعت عينيها فرأت قبالتها سيدها صانع الأحذية.
قال: ماذا تفعلين أيتها القذرة؟ الطفل يبكي وأنتِ نائمة!
صفعها بحدّة خلف أذنها فهزت رأسها وهدهدت المهد ورنّمت أهزوجتها. تمايلت البقعة الخضراء وظلال البنغاليين وملابس الطفل وارتمت عليها، وسرعان ما استحوذت على دماغها مجدّدًا. رأت مرة أخرى الطريق السريع المغطى بالطين السائل، والناس بالحقائب على ظهورهم قد استلقوا وناموا بسرعة هم وظلالهم. بالنظر إليهم اجتاحت فاركا رغبة جامحة للنوم فأرادت أن تضطجع بسعادة، لكن أمها بيليجيا كانت تسير بجانبها وتُسرّع خطاها. كانتا تسرعان معًا إلى البلدة ليجدوا وظائف.
توسّلت والدتها للأشخاص الذين قابلتهم: امنحونا الصدقات من أجل المسيح! أظهروا لنا الرحمة الإلهية وطيب القلب!
أجابها صوت مألوف: أعطني الطفل هنا!
أُعيد الصوت نفسه ولكن بقسوة وبغضب هذه المرة: أعطني الطفل هنا! هل أنتِ نائمة؟ أيتها البائسة!
قفزت فاركا وتلفّتت حولها لتفهم الأمر، فليس هناك طريق سريع ولا بليجيا ولا أشخاص يقابلونهم، هنا فقط سيدتها التي جاءت لترضع الطفل والتي تقف في منتصف الغرفة. بينما كانت المرأة السمينة ذات الأكتاف العريضة ترضع طفلها وتهدّئه، وقفت فاركا تنظر إليها وتنتظرها لتنتهي. انقلب الجوّ خارج النافذة إلى الأزرق وبدأت الظلال والبقعة الخضراء على السقف بالتواري، ففي وقت قصير سيطلع الصباح.
قالت سيدتها وهي ترجع قميصها على صدرها: احمليه، إنه يبكي، من المؤكد أنه مسحور.
أخذت فاركا الطفل ووضعته في المهد وعادت تهزّه من جديد. اختفت البقعة الخضراء والظلال تدريجيًّا، فلم يعد هناك شيءٌ يُسقط نفسه على عينيها ولا يستحوذ على دماغها. لكنها ما زالت تشعر بنعاس شديد! وضعت رأسها على زاوية المهد وهزت جسدها بأكمله لتتخطى النعاس، لكنّ عينيها ما زالتا تغمضان رغمًا عنها ورأسُها ثقيلٌ.
سمعت صوت سيدتها وهي تناديها خلف الباب: فاركا، أشعلي الموقد!
إذن إنه وقت الاستيقاظ والاستعداد للعمل، تركت فاركا المهد وذهبت إلى زريبة الحطب، إنها سعيدة، فالمرء عندما يتحرك ويسعى لشيء ما لن يشعر بالنعاس مثل شعوره به عند جلوسه. أحضرت الحطب وأشعلت الموقد فشعرت بأن وجهها المتخشب أصبح ليّنًا مرة أخرى، وبأن أفكارها بدأت تتّضح.
صاحت سيدتها: فاركا، أعدّي إبريق السماور للشاي!
كسرت فاركا قطعًا من الخشب، ولكن بالكاد أسعفها الوقت لإشعال الكسر ولوضعها في إبريق السماور حتى سمعت أمرًا جديدًا.
فاركا، نظّفي كلوشات* السيد! (حذاء مطاطي)
جلست على الأرضية وهي تنظّف الحذاء، فأخذت تفكّر كم سيكون لطيفًا لو وضعت رأسها بداخل حذاء كبير وعميق وأخذت بداخله قيلولة قصيرة… وفجأة كبر الحذاء وتضخَّم وملأ الغرفة بأكملها. رمت فاركا الفرشة وهزّت رأسها وفتحت عينيها على اتساع وحاولت أن تنظر إلى الأشياء حتى لا تكبر ولا تتحرك أمامها.
-فاركا، اغسلي الدرج الخارجي، إني محرج أن يراه الزبائن!
غسلت فاركا الدرج وكنست الغرف ونفضت الغبار عنها، ثم أشعلت موقدًا آخر وذهبت إلى المتجر. كانت الأعمال كثيرة جدًّا، فلم تحظَ بدقيقة راحة واحدة.
لكن لا شيء يضاهي الوقوف في مكان واحد مثل طاولة المطبخ لتقشير البطاطس. سقط رأسها على الطاولة ورقصت البطاطس أمام عينيها وهوت السكين من يدها بينما كانت سيدتها البدينة الغاضبة تتحرك بالقرب منها بأكمامها المطويّة تتحدّث بصوت عالٍ، ممّا أحدث طنينًا في أذن فاركا. كم هو مؤلم أيضًا أن تخدم في العشاء وتغسل وتخيط، في بعض الدقائق تاقت لتتخبط على الأرض بغض النظر عن أي شيء وتنام.
مر اليوم ورأت بأن الظلام قد حل خارج النافذة، ضغطت فاركا على جسدها وشعرت وكأنه صنع من الخشب، فابتسمت رغم أنها لا تعرف السبب. لاطف غسق المساء عينيها اللتين بالكاد تبقيهما مفتوحتين ووعدها بأن تهنأ بالنوم قريبًا، وفي المساء قدم الضيوف.
صاحت سيدتها: فاركا، جهّزي إبريق السماور.
كان إبريق السماور صغيرًا، وقبل أن يشرب الزوّار كلَّ الشاي الذي يحبّونه، وجب عليها تسخينه خمس مرات. بعد الشاي وقفت فاركا ساعة كاملة متسمرّة في البقعة نفسها تنظر إلى الضيوف وتنتظر الأوامر.
-فاركا، اركضي واشتري ثلاث قنينات نبيذ!
انطلقت وحاولت بأن تركض بأقصى استطاعتها لتبعد النوم.
-فاركا، اجلبي قنينة الفودكا! فاركا، أين فتاحة القنينات؟ فاركا، نظفي السمك!
لكن الآن على الأقل غادر الزوار وأُطفئت الأنوار وذهب السيد والسيدة إلى السرير.
-فاركا، هزي الطفل!
كان ذلك آخر أمر تسمعه.
ينعق الصرصار على الموقد وترمي البقعة الخضراء وظلال البنطال وملابس الطفل نفسها على عيني فاركا نصف المفتوحتين وتستولي على دماغها مرة أخرى. دندنت قائلة:
“يلا تنام يلا تنام، وأذبح لك جوز الحمام”
والطفل يصرخ وقد أنهك من كثرة الصراخ، ومرة أخرى ترى فاركا الطريق السريع الموحل والناس على ظهورهم والحقائب وأمها بيليجيا وأباها يفيم. فهمت كل شيء وتعرفت على الجميع، لكن خلال نومها غير المكتمل لم تستطع أن تفهم تلك القوة التي تربط يديها وقدميها وذلك الثقل على كاهلها الذي يمنعها العيش. نظرت حولها وبحثت عن تلك القوة التي لها أن تهرب منها لكنها لم تجدها. في الأخير كانت متعبة حتى الموت فقد بذلت قصارى جهدها، فتحت عينيها على اتساع وحملقت في البقعة المتذبذبة وتسمّعت للصراخ فوجدت العدوَّ الذي لن يجعلها تعيش.
العدو هو الطفل.
ضحكت، فيبدو غريبًا أنها فشلت في أن تفهم شيئًا يسيرًا كهذا من قبل، فالبقعة الخضراء والظلال والصرصار؛ كل ذلك يدعو للضحك والتعجب أيضًا.
سيطرت الهلوسات على فاركا، وقفت على المقعد الصغير وقد ارتسم على محيّاها ابتسامة عريضة واتّقدت عيناها باتساع، وأخذت تمشي جيئة وذهابًا في الغرفة. شعرت بالسعادة والمتعة لفكرة أنها ستتخلص مباشرة من الطفل الذي يربط يديها وقدميها… اقتلي الطفل ثم نامي، نامي، نامي…
ضحكت وغمزت ولوّحت بأصابعها للبقعة الخضراء، ثم تسلّلت فاركا إلى المهد وانحنت على الطفل. عندما خنقته استلقت بسرعة على الأرض وضحكت بسعادة. إنها تستطيع أن تنام. وفي غضون دقيقة نامت كما ينام الموتى.