
- الكاتب: أنطون تشيخوف
- ترجمة: لمياء يوسف
- تدقيق: هشام سعد
كانت نيلي ابنة الجنرال مالك الأراضي تحلم آناء الليل وأطراف النهار بالزواج. جلست ليلة رأس السنة في غرفتها تحدق بتعب ونصف عين بالمرآة، كانت شاحبة وساكنة كمرآتها.
تجلى بعدها أفق لدهليز خيالي ضيق وطويل وخالٍ من ضوء الشموع، وحجب الضبابَ انعكاسُ وجهها ويدها من على الإطار واتحد مع البحر الرمادي اللانهائي؛ ذلك البحر الذي ضل يلمع ويتموج منذ ذلك الحين وإلى الآن بلونه القرمزي الباهت.
بالنظر الى عيني نيلي الساكنة وفمها المفتوح كان من الصعب تحديد ما إذا كانت نائمة أو مستيقظة ولكنها في الواقع كانت تحدق في الفراغ؛ رأت في البداية طيفاً لإبتسامة لطيفة وعينين فاتنتين، وبدأ الحائط الرمادي بالإنقشاع تدريجياً ليُظهر معالم وجه شخص ما بداية من ناصيته حتى لحيته.
بسرعة خمنت ذلك لقد كان قدرها المنتظر والمثال الحي لأحلامها وأمانيها التي طالت ، والنصيب الذي يعني لها كل شيء،والمغزى من حياتها وسعادتها.
بعيداً عنه، لاح في الخلفية الرمادية وراء المرآة ظلام حالك وفراغ مقيت.
وعندما عاودت النظر إليه كان وجهه جميلاً وذا ابتسامة مشعة. كانت مدركة تماماً لهذا النعيم الذي لاتصفه أي كلمة. سمعت صوته وتصورت حياتها معه تحت ظل سقف واحد.
مرت الأيام والسنون وتوارت وراء الخلفية الرمادية مصورة لنيلي مستقبلها بكل تفاصيله بوضوح تام.
تعاقبت الصور لتستقر على مشهد لنيلي وهي تهرع إلى طبيب المنطقة ستيفان كليتش في ليلة باردة من ليالي الشتاء، وقتها نبح كلب عجوز بصوت أجش من وراء بوابة الحديقة، وكانت نوافذ المنزل تعكس ظلاماً حالكاً لمنزل الطبيب بسكون.
همست نيلي” بحق الله، بحق الله” وأخيراً صرّت بوابة الحديقة لترى نيلي طاهِ الطبيب.
همس لها حتى لا يوقظ سيده: ” سعادته نائم، لقد وصل المنزل للتو بعد مداواة المرضى وأصيب ذاته بالحمى وأمر ألّا يوقظه أحد”.
لكن نيلي بصعوبة سمعته ثم دفعته جانباً وهرعت بدون أي تردد إلى داخل منزل الطبيب مقتحمة بعض الغرف الخانقة والمعتمة وفي طريقها بدون أن تنتبه قلبت مقعدين أو ثلاثة.
وصلت لغرفة نوم الطبيب بعد كل هذا، وكان الطبيب ستيفان مستلقياً على سريره بملابسه ولكن بدون معطفه، تلألأ ضوء الليل على نحو ضعيف بجانبه، وجلست نيلي بدون أن تنبس بحرف وبدأت تجهش بالبكاء بمرارة مرتعشة الجسد من مقدمة رأسها حتى أخمص قدميها.
قالت منتحبة: “زوجي مريض”.
كان ستيفان هادئاً ثم نهض ببطء وأعتدل في جلسته، أسند رأسه على يديه ثم نظر الى ضيفته بعينين ثابتين ولكن ملؤها النوم.
كبحت نيلي تنهيداتها ولكنها استمرت بحديثها” زوجي مريض، بحق الله تعال بسرعة..أسرع…أسرع”
نفث الطبيب في يديه ودمدم: “هاه؟”
” تعال.. عليك القدوم حالاً أو.. التفكير في ما قد يحدث فهو أمر مريع .. بحق الرحمة تعال”
نيلي المرهقة الشاحبة التي خنقتها عبراتها بدأت تشرح للطبيب حالة زوجها وخوفها الشديد عليه.
معاناتها وشقاؤها كادت لتفطر قلب أقسى الكائنات ولكن الطبيب نظر إليها بدون أن ينبس ببنت شفة.
بعدها بدأ يتمتم: ” سآتي.. غ.. غداً”
صرخت نيلي: “هذا مستحيل ! فزوجي مصاب بالحمى النمشية.”
بصعوبة تحدث الطبيب” لقـ.. لقد وصلت للتو.. طوال الثلاث الأيام الماضية كنت أداوي مرضى هذا الفيروس والآن أنا مريض مثلهم.. ببساطة لا يمكنني الذهاب.. مستحيل..”
ودفع الطبيب بمقياس الحرارة أمام وجهها وقال: ” حرارتي قاربت للوصل إلى ٤٠ درجة .. قطعاً لا يمكنني الذهاب.. اعذريني سأستلقي” واستلقى الطبيب.
أنّت نيلي بيأس ثم استنجدته قائلة: ” أتوسل اليك.. أتوسل إليك..أناشد مساعدتك بحق الرحمة .. قم بمعروف عظيم وتعال .. سأكافئك”
” أوه، يا إلهي.. لماذا؟.. لقد أخبرتك بالفعل”
خرجت نيلي بعدها من الغرفة وظلت تمشي ذهاباً وإياباً من وإلى غرفة الطبيب.
تاقت لتشرح للطبيب مدى حبها لزوجها وإلى أي حد تشعر بالأسى ربما عندها يرق قلب الطبيب وينسى علته ولكن هيهات فمن أين لها الفصاحة والبلاغة لإقناعه.
سمعت صوت الطبيب ستيفان و هو يقول لها: ” اذهبي إلى الطبيب زيمستڤ”
-” هذا مستحيل فهو يبعد أكثر من عشرين ميلاً من هنا والوقت ضيق والخيول لا يمكنها تحمل الطريق ، أنت تبعد عنا بالفعل ثلاثين ميلاً وهي نفس المسافة التي يتعين علي قطعها ذهاباً إلى ذلك الطبيب، لا.. الأمر مستحيل.. أناشد عطفك وإحسانك تعال وارحمنا”
-“الأمر فوق طاقتي أنا مريض ورأسي يدور وتلك المرأة لا تفقه شيئاً..دعيني لوحدي”
-“و لكنك ملزم بتأدية هذا الواجب ولا يمكنك أن ترفض الذهاب فهذه أنانية فالرجل ملزم بالتضحية بحياته لأجل جيرانه ولكن أنت!! ترفض أن تأتي.. سأقاضيك أمام المحكمة” .
شعرت نيلي بأنها بدأت تفقد المنطق وتهين الطبيب بشكل غير لائق وغير مبرر له ولكن ماذا عساها أن تفعل! فلأجل زوجها هي مستعدة لأن تلقي باللباقة والعطف على الآخرين عرض الحائط.
لم يفعل الطبيب شيئاً للرد على كل هذه الإهانات إلا أن شرب كوباً من الماء البارد بنهم.
انحنت نيلي وبدأت تتوسل الى الطبيب كأدنى متسول في الشارع.
استسلم الطبيب في النهاية ونهض ببطء باحثاً عن معطفه.
وبحماسة قالت نيلي”ها هو ذا، دعني البسك إياه، تعال معي وسأكافئك.. سأكون ممنونة لك طالما حييت”
شعر الطبيب بألم مبرح بعد ارتدائه المعطف واستلقى مجدداً لكن نيلي رفعته وبدأت بجره معها من خلال الأسياب، ارتدى حذاءه المضاد للمطر.. ثم فُقِدَت قبعته
ولكن في النهاية كان في العربة مع نيلي وتبقى لهم أن يقطعوا مسافة ثلاثين ميلاً ثم سيُعالج الطبيب زوجها.
حل الليل بظلامه الحالك حتى أن أحدا لم يتمكن من رؤية مقدمة يده، وبدأت الرياح الباردة تعصف بهم ثم تكونت كتل جليدية على عجلات عربتهم.
توقف سائق العربة كل هوينة محتاراً أي طريق يسلك، وكانت العربة تهتز بشكل مخيف ولكن نيلي والطبيب جلسا بهدوء ولم يهتما لكل هذه الجلبة.
وفي تمام الساعة الخامسة صباحاً دخلت الجياد المتعبة إلى فناء المنزل ورأت نيلي البوابات المألوفة لها والبئر بدلوه وصف طويل من الاسطبلات وعدد من الحظائر.
اخيراً وصلتْ إلى المنزل.
قالت للطبيب وهي تُجلسه على أريكة في غرفة الطعام ” انتظر دقيقة سآتي على الفور بعد أن أرى ما حال زوجي”
عادت بعد رؤيتها له ووجدت الطبيب مستلقياً و هو يتمتم:” أيها الطبيب.. ارجوك، هاه؟ اسألي دومنا”
-ردت: ” ماذا؟”
-” ناقشوا في الاجتماع ..فلاسوف قال.. مـ.. من؟.. مـا..ماذا؟”
ارتعبت نيلي لمشهد الطبيب الذي يهذي كزوجها
-” ماذا افعل الان؟”
وقررت أن عليها الذهاب إلى الطبيب زيمستوف
مجدداً سرت في الظلام الحالك والبرد القارس واكتست الأرض بحلة بيضاء. عانى جسدها وروحها من ألم هائل والطبيعة المليئة بكل هذه المناظر الخادعة والجمال الماكر لا يمكنها التعويض عن كل هذا الألم والمعاناة.
انتهى هذا الفصل من حياتها ليتراءى أمامها فصل جديد عاكسا على الخلفية الرمادية صورة لزوجها في حالة من العوز الشديد للمال ليدفع الفائدة للمصرف على الرهن العقاري.. رأت أنها وزوجها جافاهما النوم لفترة طويلة حتى بدأت رؤوسهم تطن من الوجع من شدة التفكير في كيف سيتملصون من زيارة موظف المحكمة.
ظهرت صورة جديدة لأطفالها ورأت شدة خوفها عليهم من نزلات البرد أوالحمى القرمزية أو الخُناق، وقلقها من علاماتهم المتدنية في المدرسة.
بعد كل تلك الصور شاهدت طيف الموت يسري على الحائط فكما هو متوقع فالزوج والزوجة لا يمكنهما الموت معاً؛ لابد أن يدفن أحدهما الآخر، رأت نيلي زوجها يموت.
هذا الحدث المروع تراءى لها بكل تفاصيله بداية من الكفن مرورا بالشموع وشماس الكنيسة حتى أنها رأت آثار أقدام متعهد الدفن على طول الرواق الضيق.
تأملت وجه زوجها في تابوته وانتحبت” لماذا؟.. لأجل ماذا؟” بدت حياتها السابقة معه مجرد مقدمة تافهة لهذه اللحظة.
فجأة وقع شيء من يد نيلي مصدرا صوتاً ، قفزت بذعر واتسعت مقلتاها ثم رأت جزء من المرآة مستقراً على الأرض عند قدمها والجزء الآخر مازال في مكانه على الطاولة، تأملت وجهها في المرآة ورأت مدى شحوبها وكم غطت الدموع وجهها.
لم ترى أي أثر للحائط الرمادي الآن، في النهاية تنهدت بإرتياح وقالت” لابد أنني غفوت”.